آداب السلام
يبحث العالم اليوم عن السلام كأقصى ما يتمناه الإنسان،وغاية ما ترجوه البشرية،في حين نجد أن الإسلام منذ أربعة عشر قرنا قد مجد السلام وكرمه،ثم حققه ونشره،بعد أن غرسه في قلب كل مسلم وعلى لسانه وفي كل أعماله.
قدَّس السلام فجعله اسما من أسماء الله الحسنى التي أمر الله تعالى الناس أن يدعوه بها: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (23) سورة الحشر.
هُوَ اللهُ المَالِكُ لِجَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ،المُتَصَرِّفُ فِيهِ تَصَرُّفاً مُطْلَقاً،وَالمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ،الذِي أَمَّنَ خَلْقَهُ مِنْ أَنْ يَظْلِمَهُمْ،وَهُوَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِم الذِي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ،وَغََلَبَهُ لِعَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ،فَلاَ تَلِيقُ الكِبْرِيَاءُ إِلاَّ لَهُ،تَنَزَّهَ اسْمُهُ عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالوَلَدِ وَالشَّرِيكِ فَهُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الفَرْدُ الصَّمَدُ .[1]
والسلام هو تحية أبي البشر هدية زفتها له الملائكة الأبرار،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَطُولِهِ سِتُّونَ ذِرَاعًا،فَلَمَّا خَلْقَهُ قَالَ:اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفْرِ،وَهُمْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ،فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. قَالَ:فَذَهَبَ فَقَالَ:السَّلاَمُ عَلَيْكَمْ،فَزَادُوهُ:وَرَحْمَةُ اللهِ. قَالَ:فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا. فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ.[2].
ولما جاءت الملائكة سيدنا إبراهيم عليه السلام تبشره بإسحاق قدمت بين يديها عند الدخول تحية السلام:{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) } [الذاريات:24 - 25]
يَعُودُ تَعَالى لِيُذَكِّرَ رَسُولَهُ الكَرِيمَ rبِقَصَصِ الأنبياءِ الكِرَامِ مَعَ أقوامِهم،وَمَا لَقوهُ من تَكْذِيبٍ وَإيذاءٍ فَثَبَتُوا عَلى ما أصَابَهُمْ،وَتَابَعُوا أَدَاءَ مَهَمَّتِهِم التي كَلَّفَهُمْ بها رَبُّهُمْ،،بِعَزْمٍ وَصَبْرٍ فَنَصَرَهُمُ اللهُ،وَدَمَّرَ أقَوْامَهُمْ .
وَفي هَذِهِ القَصَصِ تَثْبِيتٌ لِقَلْبِ الرَّسُولِ r،وَتَسْلِيَةٌ لَهُ،وَتَحْذيرٌ للكَافِرِينَ مِنْ عَذابِ اللهِ وَعِقَابِهِ،وَلفتٌ لأنْظارِهِمْ إلى أنَّ سُنَّةَ اللهِ قَدْ مَضَتْ في نَصْرِ الرُّسُلِ،وَتَدْمِيرِ الكُفْرِ وَأهْلِهِ،وَليسَ لِسُنةِ اللهِ تَبْدِيلٌ،وَلا تَحْويلٌ .
وَيَبْدَأ اللهُ تَعَالى بِقصَّةِ إبراهيمَ،عليه السَّلامُ،حينَما جَاءَهُ ضُيُوفٌ مُكَرَّمونَ مِنَ الملائكةِ الأطْهَارِ .وَقَدْ دَخَلَ هَؤُلاءِ الأضْيَافُ عَلَى إبراهِيمَ،عَليهِ السَّلامُ،فَحَيَّوْهُ بالسَّلامِ،فَرَدَّ تَحِيَّتَهُمْ بأحْسَنَ مِنْها.وَقَدْ جَاءَهُ الرُّسُلُ في هَيِْئةِ شُبَّانٍ صِبَاحِ الوُجُوهِ،عَلَيهِم المَهَابَةُ،فأَنْكَرَ وُجُودَ مِثْلِهِمْ في المِنْطَقَةِ .[3]
وأمر الله تعالى عباده بالسلام على النبي rفقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحمَّدٍ rفِي المَلإِ الأَعْلَى،وَأَنَّ المَلائِكَةَ تَسْتَغفِرُ لَهُ،ثَمَّ أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بالصَّلاة والسَّلامِ عَلى نَبِيِّهِ rلِيَجْتَمِعَ لَهُ الثَّنَاءُ عَلَيهِ مِنْ أَهْلِ العَالَمَيْنِ:العُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ .[4]
وكما أن الله تبارك وتعالى كرر في ثنايا كتابه الكريم السلام على الأنبياء والمرسلين تكريما لأعمالهم،وتخليدا لذكراهم وتعريفا بفضلهم: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (79) سورة الصافات،{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (109) سورة الصافات 109،{سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } (120) سورة الصافات،{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (130) سورة الصافات،وعن سيدنا يحيى عليه السلام يقول: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} (15) سورة مريم،ويقول على لسان سيدنا عيسى: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (33) سورة مريم
والإسلام هو دين السلام قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (208) سورة البقرة
يا أيها الذين آمنوا بالله ربًا وبمحمد نبيًا ورسولا وبالإسلام دينًا،ادخلوا في جميع شرائع الإسلام،عاملين بجميع أحكامه،ولا تتركوا منها شيئًا،ولا تتبعوا طرق الشيطان فيما يدعوكم إليه من المعاصي. إنه لكم عدو ظاهر العداوة فاحذروه.[5]
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم للّه،في ذوات أنفسهم،وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور،ومن نية أو عمل،ومن رغبة أو رهبة،لا تخضع للّه ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير،في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية .. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد اللّه بهم،وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم،في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان،وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق،ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة.
وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره للّه ربه،ونصاعة هذا التصور وبساطته ..
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل،ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر .. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا،وهو يعبد اللّه القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم،فقوته وقدرته ضمان من الظلم،وضمان من الهوى،وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد،ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
فالمسلم في كنفه آمن آنس،سالم غانم،مرحوم إذا ضعف،مغفور له متى تاب ..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه،وما يطمئن روحه،وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون.
وبين الكون والإنسان .. فاللّه خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصدا،وغير متروك سدى،ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده،ومسخر له ما في الأرض جميعا.
وهو كريم على اللّه،وهو خليفته في أرضه. واللّه معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس،تتجاوب روحه مع روحه،حين يتجه كلاهما إلى اللّه ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير،الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة،وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش،وحين يعينها على النماء،وحين يزيل من طريقها العقبات .. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق،والحب والسلام.
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط .. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة .. إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس،فسوف يوفاه بميزان اللّه. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد،فالعدل لا بد واقع. وما اللّه يريد ظلما للعباد.
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات.
بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء،وفيها غناء،وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة،وأنه مخلوق ليعبد اللّه .. من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره،وترفع نشاطه وعمله،وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج اللّه فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل،وألا يعتسف الطريق،وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة ..
ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع،وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق.
فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة،وهو يرتقي صعدا إلى اللّه في كل نشاط وفي كل مجال.
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر اللّه،في طاعة اللّه،لتحقيق إرادة اللّه .. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون اللّه ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء .. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء اللّه وأعداءه. فهو إنما يقاتل للّه،وفي سبيل اللّه،ولإعلاء كلمة اللّه ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة اللّه مع هذا الكون كله. قانونه قانونه،ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام،ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته،وتهتدي بالنور الذي يهتدي به،وتتجه إلى اللّه وهو معها يتجه إلى اللّه.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء .. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله،ويمضي في الطريق إلى اللّه في طمأنينة وروح وسلام.
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني،في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة،والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال .. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب،تختلف درجة صفائه،ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر،وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان،واللغات والألوان،وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان ..
هذا المجتمع الذي يسمع اللّه يقول له:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات .. والذي يرى صورته في قول رَسُولِ اللَّهِ -r- « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».[6]..
هذا المجتمع الذي من آدابه:{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء.. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (18) سورة لقمان.. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات ..
هذا المجتمع الذي من ضماناته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النــور .. وقول رَسُولِ اللَّهِ -r- « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ».[7] ..
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء،ولا تروج فيه الفتنة،ولا ينتشر فيه التبرج،ولا تتلفت فيه الأعين على العورات،ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات،ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا .. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة،والذي يسمع اللّه - سبحانه - يقول:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النــور .. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النــور.. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النــور
.. {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النــور.. {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النــور
والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} سورة الأحزاب..
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها،ويأمن الزوج على زوجته،ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم،ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن،ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب .. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن،ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان! وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا،ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم،ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة،والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع،بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة،ولا يتسور على أحد بيته،ولا يتجسس على أحد فيه متجسس،ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة اللّه لا بإرادة حاكم،ولا هوى حاشية،ولا قرابة كبير.
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية،الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين للّه ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم اللّه وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام اللّه رب العالمين وأحكم الحاكمين،في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين ..
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها للّه فلا يعود لهم منها شي ء،ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها للّه في طواعية وفي انقياد وفي تسليم ..
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان،في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام،أو التي عرفته ثم تنكرت له،وارتدت إلى الجاهلية،تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان .. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري،وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد». حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان،مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت .. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب ..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان باللّه؟
إنه شعب مهدد بالانقراض،فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب .. ثم الانتحار ..والحال كهذا في أمريكا .. والحال أشنع من هذا في روسيا ..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة،ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ولما دعا اللّه الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ... حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة،وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وإما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق اللّه وإما طريق الشيطان. وإما هدى اللّه وإما غواية الشيطان .. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه،فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها،أو يخلط واحدا منها بواحد .. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته،ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة اللّه وشريعته،ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر .. إن هذا في سبيل الشيطان،سائر على خطوات الشيطان ..
ليس هنالك حل وسط،ولا منهج بين بين،ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج اللّه أو غواية الشيطان. واللّه يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم،ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم،تلك العداوة الواضحة البينة،التي لا ينساها إلا غافل.والغفلة لا تكون مع الإيمان.
ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان:«فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
وتذكيرهم بأن اللّه «عَزِيزٌ» يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة،وأنهم يتعرضون لقوة اللّه حين يخالفون عن توجيهه .. وتذكير هم بأنه «حَكِيمٌ» .. فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير،وما نهاهم هو الشر،وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه .. فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في المقام ..[8]
والسلام كلمة مقدسة يكررها المسلم في كل صلاة عدة مرات،ثم يختم صلاته بقوله" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" وهو خير ما في الإسلام فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ r،أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ:تُطْعِمُ الطَّعَامَ،وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ،وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ. "[9].
وجعله سببا مفضيا إلى المحبة،فالإيمان فدخول الجنة،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا،وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا،أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ[10].
وليلة القدر التي نزل فيها القرآن العظيم هدى ورحمة للعالمين وصفها الله تعالى بأنها {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (5) سورة القدر.
وَهِيَ لَيْلَةٌ كُلُّهَا سَلاَمٌ وَأَمْنٌ وَخَيْرٌ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللهِ،وَأَهْلِ طَاعَتِهِ،مِنْ مَبْدَئِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا فِي مَطْلَعِ الفَجْرِ .[11]
وأمر نبيه e أن يعامل معارضيه وخصومه قائلا: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (89) سورة الزخرف.
فَأَعْرِضْ عَنْ هَؤَلاَءِ المُعَانِدِينَ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغْتَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ،وَلاَ تُجِبْهِمْ بِمِثْلِ مَا يُخَاطِبُونَكَ بِهِ مِنَ الكَلاَمِ السَّيءِ وَلَكِنْ تَأَلَّفْهُمْ،وَاصْفَحْ عَنْهُمْ قَولاً وَفِعْلاً،فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ هِيَ الخُسْرَانُ المُبِينُ .[12]
كما جعل تحية أهل الجنة حين يلقون ربهم {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (44) سورة الأحزاب 44.
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُحَيَّوْنَ باِلسَّلاَمِ،وَهُنَاكَ ثَلاثَةُ أَقْوالٍ حَوْلَ مَنِ الذِي يُحَيِّيهِمْ بالسَّلام:
- يَقُولُ أَحَدُ هذِهِ الأََقْوَالِ:إِنَّ اللهَ تَعَالى هُوَ الذِي يُحَيِّيهِمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ بالسَّلامِ،لِقَوْلِهِ تَعَالى فِي آيةٍ أُخْرَى:{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } - وَيَقُولُ الآخَرُ:إِنَّ المَلاَئِكَةَ الكِرَامَ هُمُ الذِينَ يُحَيُّونَهُمْ بالسَّلامِ،إِذا دَخُلُوا الجَنَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالى:{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } - وَالقَولُ الآخَرُ يَقُولُ:إِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بالسَّلامِ،يَوْمَ يَلْقَوْنَ رَبِّهُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ،كَمَا قَالَ تَعَالى:{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ فِي الجَنَّة ثَواباً عَظِيماً عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا .[13]
وعندما تتلقاهم الملائكة {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (73) سورة الزمر،وكذلك ينعم عليهم المولى عز وجل بخطابه الإلهي: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (34) سورة ق.
وأخيرا فقد شرع الإسلام السلام تحية بين المسلمين وحض على إفشائه والإكثار من ترداده،كلما لقي المسلم فردا أو جماعة،عرفهم أم لم يعرفهم كما سبق في الحديث الشريف،وجعل ذلك أحد الطرق الموصلة إلى الجنة،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ:لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -r- الْمَدِينَةَ اسْتَشْرَفَهُ النَّاسُ فَقَالُوا:قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -r- قَالَ:فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ،فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ،وَصِلُوا الأَرْحَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ،تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ »[14]..
وقد بلغ من محبة السلف الصالح لبذل السلام هذه الحادثة الغريبة فعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ،قَالَ:فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ،لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَاطٍ،وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ،وَلَا مِسْكِينٍ،وَلَا أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ،قَالَ الطُّفَيْلُ:فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ،فَقُلْتُ لَهُ:وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ ؟ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيِّعِ،وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ،وَلَا تَسُومُ بِهَا،وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ ؟ قَالَ:وَأَقُولُ اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ،قَالَ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:" يَا أَبَا بَطْنٍ - وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ - إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ،نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا ". رواه مالك في الموطأ[15].
وإذا كان للسلام هذه الأهمية في الإسلام،فإن له آدابا كثيرة على المسلم أن يراعيها في معرفة أحكامه،وكيفية إلقائه،وغير ذلك من الآداب الكريمة التي لا تترك نقيرا ولا فتيلا ولا قطميرا:
الالتزام بصيغة السلام الواردة عن النبي r،فيقول: السلام عليكم ويمكنه أن يزيد ورحمة الله وبركاته،أما ردُّ السلام فيكون على الفور وبالصيغة التالية وعليكم السلام،والأفضل أن يزيد ورحمة الله وبركاته،ولئن كان إلقاء السلام سنة فإن رده واجبا يأثم تاركه.
قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء.
وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ،فَرُدُّوا السَّلاَمَ عَلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِنْهُ،أَوْ رُدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ ( فََإِذَا قَالَ لَكُمْ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَرُدُّوا عَلَيهِ قَائِلِينَ:وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ).فَالزِّيَادَةُ مَنْدُوبَةٌ،وَالمُمَاثَلَةُ مَفْرُوضَةٌ .وَاللهُ مُحَاسِبٌ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ،وَاللهُ تَعَالَى رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ فِي مُرَاعَاةِ الصِّلَةِ بَيْنَكُمْ بِالتَّحِيَّةِ،وَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ .[16]
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -r- فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ النَّبِىُّ -r- « عَشْرٌ ». ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ « عِشْرُونَ ». ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ « ثَلاَثُونَ ». رواه أبو داود[17]
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ،فَقُلْتُ:وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ،تَرَى مَا لاَ نَرَى يَا رَسُولَ اللهِ. متفق عليه[18].
أن يأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحدا،وأن يقصد من سلامه امتثال أمر الله تعالى ورسوله،وعقد وشائج المحبة والأمان والاطمئنان بين المسلمين.
فعن الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أَمَرَنَا النَّبِىُّ - r- بِسَبْعٍ،وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ.فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ،وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ،وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ،وَرَدَّ السَّلاَمِ،وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ،وَإِجَابَةَ الدَّاعِى،وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ "[19].
أن يبدأ بالسلام قبل الكلام إذا أتى أحدا في بيته،أو لقي أحدا في الطريق،وأن يختم مجلسه أو كلامه بالسلام أيضا.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النــور
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيَأْمُرُهُم بِأَلاَّ يَدْخُلُوا بُيوتاً غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ ( يَسْتَأنِسُوا )،وَيُسَلِّمُوا بَعْدَ الاستئذان،وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأَذِنُوا ثَلاثَ مَرَّاتٍ،فَإِذَا أُذِنَ لَهُمْ دَخُلُوا وَإِلاَّ انصرفوا،فَالاستئذان خَيْرٌ لِلمُسْتَأذِنِ وَلأَهْلِ البَيْتِ،فالبيْتُ سَكَنٌ يَفِيُْ إِلَيْهِ النَّاسُ فَتَسْكُنُ أَرْوَاحُهُمْ،وَيَطْمَئِنُّونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَحُرَمَاتِهِم،وَيُلْقُونَ عَنْهُمْ أَعْبَاءَ الحِرْصِ والحَذَرِ المُرْهِقَةِ للنُّفُوسِ والأَعْصَابِ،والبُيُوتُ لاَ تَكُونُ كَذَلِكَ إِلاَّ تَكُونُ حَرَمَاً آمِناً لاَ يَسْتَبِيحُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِعِلمِ أَهْلِهِ وإِذْنِهِمْ فِي الوَقتِ الذي يُرِيدُونَ هُمْ.( وَكَانُوا فِي الجَاهِليَّةِ يَدْخُلُونَ بِدُونِ اسْتِئْذَان ) ثُمَّ يَقُولُونَ لَقَدْ دَخَلْنَا )[20] .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ ». رواه أبو داود[21].
وعَنْ جُنْدُبٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r: إِذَا لَقِيَ أَصْحَابَهُ لَمْ يُصَافِحْهُمْ حَتَّى يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ. رواه الطبراني[22].
وعَنْ قَتَادَةَ،قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: " إِذَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهِ،فَإِذَا خَرَجْتُمْ فَأَوْدِعُوا أَهْلَهُ بِسَلَامٍ "رواه البيهقي[23].
السلام على أهل بيته كلما دخل البيت أو خرج منه. عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ -r- « يَا بُنَىَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ ». رواه الترمذي[24].
التجرؤ على ابتداء السلام وإلقائه على الآخرين،لا انتظار الناس لتلقي عليه السلام. وذلك ليكتسب الأجر الكبير الذي ينتظر من يبدأ غيره بالسلام.فعَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلاَنِ يَلْتَقِيَانِ أَيُّهُمَا يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ فَقَالَ « أَوْلاَهُمَا بِاللَّهِ ». رواه الترمذي[25].
يستحب أن يكرر المسلم السلام على أخيه المسلم كلما تقرر لقاؤه به ولو كان الفاصل زمنا يسيرا.
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ إِذَا لَقِىَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أَيْضًا." أبو داود[26].
يستحب إذا أتى قوما وهم جمع كثير أن يسلِّم عليهم ثلاثا حتى يبلغهم جميعا. فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - r- أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ،وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا"[27]
يسلم الماشي على الواقف،والراكب على الماشي،والصغير على الكبير،والواحد على الجماعة،والقليل على الكثير،وهكذا..
فعَنْ ثَابِتٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدٍ،أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي،وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ،وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ. متفق عليه[28].
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَرْفَعْهُ إِلَى النَّبِيِّ rقَالَ: " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي،وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ،وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ،وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ،وَإِذَا مَرَّ الْقَوْمُ فَسَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَجْزَأَ عَنْهُمْ،وَإِذَا رَدَّ عَنِ الْآخَرِينَ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنْهُمْ "[29]
إذا قدم جماعة على فرد أجزأ أن يسلم أحدهم نيابة عنه،وإذا قدم أحد على جماعة فسلم عليهم أجزأ أن يرد أحدهم عليه نيابة عنهم. فعَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رضى الله عنه - قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ - قَالَ « يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ ».رواه أبو داود[30].
يستحب خفض الصوت بالسلام ليلا،أو إذا أتى قوما بينهم نيام. فعَنِ الْمِقْدَادِ قَالَ أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِى وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الْجَهْدِ فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -r- فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْبَلُنَا فَأَتَيْنَا النَّبِىَّ -r- فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى أَهْلِهِ فَإِذَا ثَلاَثَةُ أَعْنُزٍ فَقَالَ النَّبِىُّ -r- « احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ بَيْنَنَا ». قَالَ فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشْرَبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ وَنَرْفَعُ لِلنَّبِىِّ -r- نَصِيبَهُ - قَالَ - فَيَجِىءُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لاَ يُوقِظُ نَائِمًا وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ - قَالَ - ثُمَّ يَأْتِى الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّى ثُمَّ يَأْتِى شَرَابَهُ فَيَشْرَبُ فَأَتَانِى الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِى فَقَالَ مُحَمَّدٌ يَأْتِى الأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ فَأَتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِى بَطْنِى وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ - قَالَ - نَدَّمَنِى الشَّيْطَانُ فَقَالَ وَيْحَكَ مَا صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ فَيَجِىءُ فَلاَ يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ. وَعَلَىَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَىَّ خَرَجَ رَأْسِى وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِى خَرَجَ قَدَمَاىَ وَجَعَلَ لاَ يَجِيئُنِى النَّوْمُ وَأَمَّا صَاحِبَاىَ فَنَامَا وَلَمْ يَصْنَعَا مَا صَنَعْتُ - قَالَ - فَجَاءَ النَّبِىُّ -r- فَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُسَلِّمُ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ الآنَ يَدْعُو عَلَىَّ فَأَهْلِكُ.
فَقَالَ « اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِى وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِى ». قَالَ فَعَمَدْتُ إِلَى الشَّمْلَةِ فَشَدَدْتُهَا عَلَىَّ وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى الأَعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ فَأَذْبَحُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ -r- فَإِذَا هِىَ حَافِلَةٌ وَإِذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ فَعَمَدْتُ إِلَى إِنَاءٍ لآلِ مُحَمَّدٍ -r- مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ - قَالَ - فَحَلَبْتُ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -r- فَقَالَ « أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ ». قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْرَبْ. فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِى فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْرَبْ. فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِى فَلَمَّا عَرَفْتُ أَنَّ النَّبِىَّ -r- قَدْ رَوِىَ وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ ضَحِكْتُ حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الأَرْضِ - قَالَ - فَقَالَ النَّبِىُّ -r- « إِحْدَى سَوْآتِكَ يَا مِقْدَادُ ». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَمْرِى كَذَا وَكَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا. فَقَالَ النَّبِىُّ -r- « مَا هَذِهِ إِلاَّ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَفَلاَ كُنْتَ آذَنْتَنِى فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا فَيُصِيبَانِ مِنْهَا ». قَالَ فَقُلْتُ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُبَالِى إِذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا مَعَكَ مَنْ أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ. رواه مسلم[31].
يستحب أن يسلم على نفسه إذا دخل بيته وكان خاليا قائلا:" السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".
قال الله تعالى:{ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} (61) سورة النــور
فإذا دخلتم بيوتًا مسكونة أو غير مسكونة فليسلِّم بعضكم على بعض بتحية الإسلام،وهي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،إذا لم يوجد أحد،وهذه التحية شرعها الله،وهي مباركة تُنْمِي المودة والمحبة،طيبة محبوبة للسامع،وبمثل هذا التبيين يبيِّن الله لكم معالم دينه وآياته؛ لتعقلوها،وتعملوا بها.
يسنُّ السلام على الصبيان إذا مر بهم،مما يستجلب محبتهم،ويقوي شخصيتهم،ويمهد لنصحهم وتعليمهم،وينفي الكبر عن الذي ألقى السلام،كما يستحب إلقاء السلام على الفقراء والمساكين.
فعَنْ أَنَسٍ،أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ،ثُمَّ حَدَّثَنَا: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ r،مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ".رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ[32].
وفي رواية عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -r- مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ[33].
تستحب المصافحة مع السلام،دون الانحناء أو العناق أو التقبيل.فعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا ». رواه أبو داود[34].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِى لَهُ قَالَ « لاَ ». قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ « لاَ ».قَالَ أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ قَالَ « نَعَمْ ».. رواه الترمذي[35].
تستحب استصحاب بشاشة الوجه،ولين الجانب،وحرارة اللقاء،أثناء إلقاء السلام أو رده.
فعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ -r- « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ