نَّ أهميةَ التربيةِ تكمُنُ في أنها موجَّهةٌ إلى الإنسان، وليس أي إنسان؛ بل إلى أولادنا الذين نبغي لهم السعادةَ الدنيوية والأخروية، وتُوجَّه هذه التربيةُ إلى أغلى شيء في الإنسان، وهو العقلُ الذي ميَّز الله به الإنسانَ عن باقي المخلوقات، ومن هنا تأتي أهميةُ التربية، فهي تهذيبٌ وتقويم للأفكار الهدَّامة، والأخلاقِ السيئة، والأسرةُ هي الراعي التربوي الأولُ الذي يترعرعُ فيه الطفلُ، ويفتحُ عينيه في أحضانه، وبعدها المؤسسة الثانية، ألاَ وهي المدرسة، ولكن تتشكل شخصيةُ الطفل خلالَ السنوات الخمس الأولى؛ لذا كان من الضروري أن تلم الأسرةُ بالأساليب التربوية الصحيحة، التي تُنمي شخصيةَ الطفل، وتجعل منه شابًّا واثقًا بنفسه، صاحبَ شخصية قوية، ومتكيفةٍ وفاعلة في المجتمع.
وتتكوَّن الأساليب غيرُ السوية والخاطئة في تربية الطفل؛ إما لجهل الوالدين بتلك الطرق، أو لاتِّباع أسلوب الآباء والأمهات والجدات، أو لحرمان الأب أو الأم من اتجاه معين، فالأب عندما يُحرم من الحنان في صغره، تراه يُغدِق على طفله بهذه العاطفة أو العكس، بعض الآباء يريد أن يطبق الأسلوب المتبَع في تربية والده له على ابنه، وكذلك الحالُ بالنسبة للأم، وقد ينتج عن ذلك اتجاهاتٌ غير سويَّة وخاطئة ينتهجها الوالدان أو أحدهما في تربية الطفل، فتترك آثارًا سلبية على شخصية الأبناء.
وكما تحتاج الأسرةُ للمال؛ لتزود به حاجتها الضَّرورية، فحاجتُها إلى غذاء الروح وغذاء العقول أشدُّ من حاجتها إلى المال، فتوفير الأشياء المادية فحسبُ للولد هو من أخطرِ الأشياء التي تساعد في ضياع الأبناء، وإنَّ المال وحدَه لا يكفي لتنشئة أبناء أصحَّاء من الناحية النفسية، ومن الناحية البدنية والاجتماعية؛ بل على العكس من ذلك، بل قد يكون توفرُ المال سببًا رئيسًا في انحراف الأبناء، ويقول بعض الآباء: إنَّ أحسن ما تنفقه على ولدك ليس المال؛ وإنَّما الوقت، فالأبناء بحاجة إلى الرعاية الشخصية.
ومن المؤسف - أيها الإخوة - أنَّ كثيرًا من الآباء لا يلتقون بأولادهم وبأزواجهم، إلاَّ على مائدة الطعام، هذا إن لم يكن أحدهم مدعوًّا على الغداء أو العشاء، فقد يلتقي مع أولاده على مائدة الطعام مدة عشر دقائق، أو ربع ساعة، أما بقية الوقت فقد تركهم في "لا شيء"، ثم بعد ذلك ينزعج ويغضب ويُفاجأ إذا وجد مِن أبنائه شيئًا من الانحراف.
وغياب الراعي ليس المقصود به عدم الوجود؛ إمَّا بسفره أو انهماكه في عمله فقط، ولكن أقصد غيابَ الوَعْي للراعي والمربي؛ إمَّا بِجَهل، أو سوء علم، أو خطأ في الفهم، وأركز هنا على غياب الراعي بجهله بأساليب التربية، وهي أخطر ما في الموضوع؛ لأنَّها دائمًا تؤدي إلى نتائجَ سلبيةٍ سيئة.
ومن أهم الأنماط السلبية في تربية الطفل:
التسلُّط والسيطرة، ومنها التدليل الزائد، ومنها الإهمال، وغيرها من الطُّرق الخاطئة، وهناك أيضًا بعضُ الوسائل الإلكترونية الحديثة التي نترك أبناءَنا في أحضانها تُربِّيهم لنا، ولا نتابعهم، ولا نبحث عن أثر هذه الوسائل إلاَّ بعد فوات الأوان، منها: التِّلفاز، والألعاب الإلكترونية، والإنترنت، وغيرها، وهناك بعض العادات والعلاقات الاجتماعية التي ربَّما تترك أثرًا سلبيًّا أيضًا في شخصية الطفل، ويُهمِلُها كثيرٌ من المربِّين، ولا يُعطونها أهميةً، وهي في غاية الخطورة إن غاب عنها الراعي، مثل: مجموعة الأصدقاء، والدروس الخصوصية، وهناك بعض العادات الجميلة التي تُنمِّي مواهبَ الطفل، وتوسِّع معارفَه وآفاقه، التي تكاد تكون غيرَ موجودة الآن في بيوتنا ولا يهتم بها الراعي، ألاَ وهي المكتبة، وأثر غيابها عظيم على عقلية الطفل، وإليكم بعض التفصيل:
♦ من أنماط التربية الخاطئة التي تؤدي إلى نتائج سلبية:
1- الحماية الزائدة:
أمرَنا دينُنا الإسلامي الحنيف بالوسطية والاعتدال في كل شيء؛ يعني: لا إفراطَ ولا تفريط، وحمايةُ الأطفال واجبةٌ على الأبوين؛ لأنَّ الأطفال قليلو الخبرة في الحياة، وربَّما يعرِّضون أنفسهم للخطر وهم لا يشعرون، ولكننا هنا لا نتكلم عن هذه الحماية الضَّرورية والواجبة على كل أولياء الأمور تُجاه أولادهم، ولكننا بصدد الحديث عن الحماية الزائدة التي تُلغَى معها شخصيةُ الطفل في كل شيء.
فقد يقوم أحد الوالدين أو كلاهما نيابةً عن الطفل بالمسؤوليات التي يُفترض أنْ يقوم بها الطفلُ وحدَه؛ حيث يحرص الوالدان أو أحدهما - بدافع حمايةِ الطفل - على التدخُّل في شؤونه، وقد تظهر الحماية الزائدة للطفل من قِبَلِ الأم على سبيل المثال؛ خوفًا من أن يصيبه مكروه، أو عُدوان، أو حتى عدوى ما، فتقوم مثلاً بحجْبه عن البشر ومنعه عنهم؛ فلا مجال لتقبيله من قِبَل الآخرين، ولا مُداعبته وتقديم الحلوى له، أو عدم السماح له باللعب مع الأطفال إلا تحت رقابة شديدة وصارمة.
وقد لا يتاح للطفل فرصةُ اتِّخاذ قراره بنفسه، وعدم إعطائه حرية التصرُّف في كثير من أموره؛ مثل: حل الواجبات المدرسية عن الطفل، أو الدِّفاع عنه عندما يعتدي عليه أحدُ الأطفال في الشارع أو المدرسة، وقد يرجع ذلك إلى خوف الوالدين على الطفل، لا سيما إذا كان هذا الطفل هو الطفلَ الأول أو الوحيد، أو إذا كان ولد وسط عدد من البنات أو العكس، فيبالغان في تدليله وحمايته، وهذه الحماية الزائدة بهذا الأسلوب بلا شك تؤثِّر سلبًا في نفسية الطفل وشخصيته، فينمو الطفل بشخصية ضعيفة غير مستقلة، يعتمد على غيره في أداء واجباته الشخصية، وعدم القُدرة على تحمُّل المسؤولية ورفضها، إضافةً إلى انخفاض مُستوى الثقة بالنفس وتقبُّل الإحباط، تؤدي أيضًا إلى أن ينشأ الأطفالُ غيرَ قادرين على تنمية قوة الاحتمال أو تطوير ذواتهم، وهذا يقودهم إلى الأثَرة أو الاستئثار، ويصل الأمر بهؤلاء الأطفال إلى أنَّهم لا يثقون في قراراتِهم التي يصدرونها، ويَثقون في قراراتِ الآخرين، ويعتمدون على الآخرين في كل شيء، وتكون نسبة حساسيتهم للنقد مُرتفعة، ويكونون تبعًا لغيرهم؛ مما قد يُعرِّضهم للانقياد وراء المنحرفين من الأطفال، ويُصبحون غير نشيطين، ولا يعتمدون على أنفسهم؛ وذلك بسبب الفرص المحدودة لديهم للمغامرة، وكونهم قليلي الثِّقة بأنفسهم، لا يتعاملون مع بيئتهم أو مع الآخرين؛ ولذلك يتولد الشعور بالخجل والخوف من الآخرين، وهذا الأسلوب من شأنه إيجاد طفل مدلَّل عنيد وغير اجتماعي، ولا بُدَّ أن يعاني عدمَ التوازن في المعاملة التي يتلقاها بين المنزل والمدرسة، ومِن ثَمَّ بين المنزل والحياة بشكل عام عندما يكبر.
2- التدليل:
والتدليل مطلوب لكن دون إفراط فيه؛ لأن الشيء إذا زاد عن حدِّه قُلب إلى ضده، وقد نصَّ علماء النفس على أن الإسراف فيه له عواقبُ وخيمةٌ، والتدليل قضاءُ كلِّ ما يريده الطفل مهما كان سخيفًا، وأنْ يكون الجميع رهنَ إشارته، فلا شيء ينقصه ولا يُضايقه، وهو أيضًا أن نشجِّع الطفل على تَحقيق معظم رغباته كما يريد هو، وعدم توجيهه، وعدم كفِّه عن ممارسة بعض السلوكيات غير المقبولة دينيًّا أو خلقيًّا أو اجتماعيًّا، والتساهل معه في ذلك.
والمثال على ذلك: عندما يتعلم الطِّفل السبابَ والشتائم، سواء من بعض الأقارب أم من الشارع، لا ينهاه الأب والأم عنها؛ بل ربَّما يفرحون ويشجعونه على ذلك، فَرِحين بأنه ينطق ويتكلم، ويقولون: عندما يكبر نعلِّمه، وأيضًا عندما تصطحب الأم الطفلَ معها إلى منزل الجيران أو الأقارب، ويُخرِّب الطفل أشياء الآخرين ويكسرها، لا تزجره؛ بل تضحك له وتحميه من ضرر الآخرين، وهكذا.
وقد يتَّجه الوالدان أو أحدهما إلى اتِّباع هذا الأسلوب مع الطفل؛، إمَّا لأنه طفلهما الوحيد، أو لأنه ولد بين أكثر من بنت أو العكس، أو لأنَّ الأب قاسٍ، فتشعر الأم تُجاه الطفل بالعطف الزائد، فتدلِّله وتحاول أن تعوضه عما فقده، أو لأن الأم أو الأب تربَّيا بالطريقة نفسها، فيطبقان ذلك على ابنهما.
والطفل المدلل يأخذ ولا يعطي؛ مما يؤدي به إلى:
♦ الشعور بالنقص حين يواجه العالَمَ الخارجي؛ إذ تعوَّد أن يكون محطَّ الأنظار، مما قد لا يتوفر له، فيفقد ثقته بنفسه.
♦ يتحامل على الناس، ويشعر بالاضطهاد؛ مما يهدم شخصيته.
♦ يعيش في صراعٍ نفسيٍّ بين رغبته في توكيد ذاته، أو الاتِّكال على الآخرين كما تعوَّد.
♦ عدم تدريبه على أيِّ مَسؤولية، أو قيمة، أو نظام، بدءًا بألعابه، أو استذكاره لدُروسه.
ولا شَكَّ أن لتلك المعاملة مع الطفل آثارًا على شخصيته، ومن نتائج تلك المعاملة أن الطفل ينشأ غيرَ معتمد على نفسه، غيرَ قادر على تحمل المسؤولية، بحاجة لمساندة الآخرين ومعونتهم، ويُعوَّد الطفل عدمَ المبالاة، وعندما يكبر تَحدث له مشكلات عدم التكيُّف مع المجتمع، فينشأ وهو يريد أن يلبي له الجميعُ مطالبَه، يثور ويغضب عندما يُنتقد على سلوكٍ ما، ويعتقد الكمال في كلِّ تصرفاته، وأنه منزَّه عن الخطأ، وعندما يتزوج يُحمِّل زوجته جميعَ المسؤوليات دون أي مشاركة منه، ويكون مُهملاً؛ نتيجةَ غمره بالحب دون توجيه.
فيجبُ على الآباء أنْ يعتدلوا في تدليل الأطفال، وفي الهدايا للأطفال خصوصًا؛ ليتعود الأطفالُ على أنَّ السعادةَ لا تأتي من خلال إمطارهم بالأعطية والهبات والأموال واللعب، ويجب أن يعطوهم بحساب؛ فلقد تبيَّن من خلال دراسة عملية ميدانية أنَّ أسعدَ الأطفال هم من يحصلون على قدر مُعتدل من الحاجات الضرورية، أما أولئك المدلَّلون فهم بعيدون عن السعادة؛ لأنهم تربَّوا على الحصول عليها بسهولة، ولأنَّهم ظنوا أنَّ السعادة تتحقق من خلال هذه الأشياء.
3 - التسلط أو السيطرة:
سيطرة الأب أو الأم على نشاط الطِّفل، والوقوف أمام رغباته، ومنْعه من القيام بسُلوك معين لتحقيق رغباتِه التي يريدها، حتى ولو كانت مَشروعة، أو إلزام الطفل بالقيام بمهام وواجبات تفوق قدراتِه وإمكاناته، ويُرافق ذلك استخدام العُنف أو الضرب أو الحرمان أحيانًا، كأنْ تفرض الأم على الطفل ارتداءَ ملابس معينة، أو طعامًا معينًا، أو أصدقاء معينين، أو الخروج في أوقات لا يرغب أن يخرج فيها، أو زيارة أحد الأقارب التي لا يرغب في الذَّهاب إليهم، أيضًا عندما يفرض الوالدان على الابن تخصصًا مُعينًا في الجامعة، أو دخول قسم معين في الثانوية: قسم العلمي أو الأدبي... أو... أو... إلخ.
وقد يعتقد الوالدان أنَّ ذلك في مصلحة الولد، دون أن يعلموا أنَّ لذلك الأسلوب خطرًا على صحة الطفل النفسية، وعلى شخصيته مستقبلاً، ونتيجة لذلك الأسلوب المتبع في التربية؛ ينشأ الطفلُ ولديه ميلٌ شديد للخضوع واتِّباع الآخرين، لا يستطيع أن يبدع أو أن يفكر، أو أن تظهر شخصيتُه المستقلة ورغباته المفضلة، التي ربَّما تكون نافعةً لنفسه ولمجتمعه، وعدم القدرة على إبداء الرأي والمناقشة، كما يساعد اتباعُ هذا الأسلوب في تكوين شخصية قلقة خائفة دائمًا من السُّلطة، تتَّسِم بالخجل والحساسية الزائدة، وتُفْقِد الطفلَ الثقةَ بالنفس، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، وشعورًا دائمًا بالتقصير وعدم الإنجاز، وقد ينتج عن اتباع هذا الأسلوب طفلٌ عدواني يخرب ويكسر أشياء الآخرين؛ لأنَّ الطفل في صغره لم يُشبِع حاجته للحرية والاستمتاع بها.
4 - الإهمال:
الإهمال هو أن ينشغل المربِّي بشهواته، وبلهوه وسَهوه، وربَّما عمله، والإعراض عمن تحت يده، وعدم الاهتمام بإصلاحهم، وعدم تربيتهم التربية الصالحة، فأهلُ الإهمال هم أناس اشتغلوا بدنياهم، وانشغلوا بملاهيهم وبسَهوهم وغفلتهم، ولم يهتموا بأولادهم ذكورًا وإناثًا، ولم يشعروا بما يكون فيه الأولاد وما يَحتاجونه، فهم معرضون عنهم، فإهمالهم يترتب عليه شرٌّ عميم، ويترتب عليه تضييعُ حق الله وحق الأولاد، الذين هم ودائع عندكم وأمانات، فكما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته))، فإهمال الطفل ضياعٌ له في الدنيا، وضياعٌ لوالده في الدُّنيا والآخرة، ولا شكَّ أن هذا الإعراض يسبب ضررًا كبيرًا؛ وذلك لأنَّ هؤلاء الأولادَ إذا أُهملوا، ولم يكن هناك مَن يراقبهم ولا من يَحفظهم ويتولى أمرَهم، فإنَّهم يدخلون في طريق الفساد؛ وذلك لكثرة المفسدين، وكثرة أهل الغواية، الذين يَجتذبون كلَّ مَن وجدوه مُهملاً إلى صفِّهم وإلى جانبهم.
وفي هذه الأزمنة تكثُر وسائلُ الفساد، فإذا لم يكن الراعي مراقِبًا لرعيته، أخذتْهم هذه الوسائلُ، فالأولاد إذا بلغوا الخامسة أو السادسة ولم يكن آباؤهم يهتمون بهم، ولا يراقبونَهم، ولا هناك من يتولى تربيتهم، فالغالب أن يتولاهم أهلُ الشر والفساد؛ حيث انشغل الآباء عنهم.
وما أخطرَ أن يَترُك الوالدان الطفلَ دون تشجيع على سلوك مرغوب فيه، أو الاستجابة له، وتركه دون محاسبته على قيامه بسلوكٍ غير مرغوب فيه، وقد ينتهج الوالدان هذا الأسلوب؛ بسبب الانشغال الدَّائم عن الأبناء وإهمالهم المستمر لهم، فالأبُ يكون معظم وقته في العمل، ويعود لينام، ثم يخرج ولا يأتي إلاَّ بعد أن ينام الأولاد، والأم تنشغل بكثرةِ الزيارات والحفلات، أو في الهاتف، أو على الإنترنت أو التلفزيون، وتهمل أبناءها، أو عندما تهمل الأم تلبيةَ حاجات الطفل من طعام وشراب ومَلبس وغيرها، والأبناء يُفسرون ذلك على أنَّه نوع من النبذ والكراهية والإهمال، فيؤثِّر ذلك في نموِّهم النفسي، ويصاحِب ذلك أحيانًا السخريةُ والتحقير للطفل.
ومن صور الإهمال المنتشرة في بيوتنا، التي تغتالُ روحَ التفوُّق والإبداع لدى الأطفال، عندما يقدم الطفلُ للأم عملاً قد أنجزه وسعد به، تَجدها تحطمه، وتنهره، وتسخر من عمله ذلك، وتطلُب منه عدم إزعاجها بمثل تلك الأمور التافهة، كذلك الحال عندما يحصل الطفل على درجة مُرتفعة في إحدى المواد الدراسية، لا يُكافأ ماديًّا ولا معنويًّا، أمَّا إن حصل على درجة منخفضة تجده يوبَّخ ويسخر منه، وهذا بلا شك يَحرم الطفلَ من حاجته إلى الإحساس بالنجاح، ومع تَكرارِ ذلك يفقد الطفل مكانتَه في الأسرة، ويشعر تُجاهها بالعدوانية وفُقدان حُبِّه لهم.
وعندما يكبر هذا الطفلُ يجد في الجماعة التي ينتمي إليها ما ينمِّي هذه الحاجة، ويَجد مكانته فيها، ويجد العطاء والحب الذي حُرِم منه، وهذا يفسر هربَ بعضِ الأبناء من المنزل إلى (ثلة) الأصدقاء؛ ليجدوا ما يشبع حاجاتِهم المفقودةَ هناك في المنزل، وتكون خطورة ذلك الأسلوب المتبع - وهو الإهمال - أكثر ضررًا على الطفل في سِنِي حياته الأولى بإهماله, وعدم إشباع حاجاته الفسيولوجية والنفسية؛ لحاجة الطفل للآخرين، وعجزه عن القيام بإشباع تلك الحاجات.
ومن نتائج اتباع هذا الأسلوب في التربية، ظهورُ بعض الاضطرابات السلوكية لدى الطفل؛ كالعدوان والعُنف، أو الاعتداء على الآخرين، أو العناد، أو السرقة، أو إصابة الطفل بالتبلُّد الانفعالي، وعدم الاكتراث بالأوامر والنواهي التي يصدرها الوالدان.
5 - التفرقة وعدم المساواة في المعاملة:
التفرقة بين الأبناء وتفضيل بعضهم على بعض، قد يكون سببًا للانحراف، فقد أمَرَ الدينُ الوالدين بالعدالة بين الأبناء؛ إذ يقول رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم))، وإن رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - دعا إلى المساواة بين الأبناء، حتى في القُبلة، وأمَّا عدم المساواة بين الأبناء جميعًا والتفضيل بينهم؛ بسبب الجنس، أو ترتيب المولود، أو السن، أو غيرها، فنجده عند بعض الأُسر؛ إذ تفضِّل الأبناء الذُّكور على الإناث، أو تفضل الأصغر على الأكبر، أو تفضل ابنًا من الأبناء؛ بسبب أنه متفوق، أو جميل، أو ذكي، وغيرها، وهذا بلا شك يؤثِّر على نفسيات الأبناء الآخرين وعلى شخصياتهم، فيشعرون بالحقد والحسد تُجاه هذا المفضَّل، وينتج عنه شخصيةٌ مستأثرة، ويتعوَّد الطفل على أنْ يأخذَ دون أن يعطي، ويُحب أن يستحوذ على كل شيء لنفسه، حتى ولو على حساب الآخرين، ويصبح لا يرى إلا ذاته فقط، وأما الآخرون فلا يهمونه، وينتج عنه شخصية تعرِف ما لها ولا تعرف ما عليها، تعرف حقوقها ولا تعرف واجباتها.
6 - التذبذب في المعاملة:
والتذبذُب في المعاملة؛ أي: عدم استقرار المربِّي من حيث استخدام أساليب الثَّواب والعقاب، فيُعاقِبُ الطِّفلَ على سلوكٍ معيَّن مرة، ويُثيبه على السلوك نفسه مرة أخرى، وذلك نلاحظه في حياتنا اليومية من تعامُل بعض الآباء والأمهات مع أبنائهم، مثلاً: عندما يسب الطفل أمَّه أو أباه، نجد الوالدين يضحكان له ويبديان سرورَهما، أمَّا لو كان الطفل يعمل ذلك العمل أمام الضيوف، فيجد أنواعَ العِقاب النفسي والبدني، فيكون الطفلُ في حيرة من أمره، فمرة يثيبانه على السلوك، ومرة يعاقبانه على السلوك نفسه، وغالبًا ما يترتب على اتِّباع ذلك الأسلوبِ شخصيةٌ متقلِّبة، مزدوجة في التعامُل مع الآخرين، وعندما يكبر هذا الطفل ويتزوج تكون معاملة زوجته متقلبة متذبذبة، فنجده يعاملها برِفْق وحنان تارة، وتارة يكون قاسيًا من دون أي مسوغ لتلك التصرُّفات، وقد يكون في أسرته في غاية البُخل والتدقيق في حساباته ودائم التكشير، أمَّا مع أصدقائه فيكون شخصًا آخرَ، كريمًا متسامحًا، ضاحكًا مُبتسمًا، وهذا دائمًا نلحظه في بعض الناس.
ويظهر أيضًا أثرُ هذا التذبذب في سلوك الأولاد؛ إذ يسمح لهم بإتيانِ سلوك معين، في حين يعاقبهم مرة أخرى بما سمح لهم من تلك التصرُّفات والسلوكيات، فقد يأمرهم بالكذب على أحد أصدقائه عندما يتَّصل به، ويقول لولده: قل له: إنِّي غير موجود، ويعاقب الطفلَ بعد ذلك على الكذب، كلُّ ذلك يؤدي بالأطفال إلى الازدواج في الشخصية؛ بسبب هذا التذبذب.
7 - إثارة الألم النفسي:
إثارة الألم النفسي يكون بإشعار الطفل بالذَّنب كلما أتى سلوكًا غير مرغوب فيه، أو كلما عبَّر عن رغبة سيئة، وتحقير الطفل أيضًا، والتقليل من شأنه، والبحث عن أخطائه، ونقد سلوكه؛ مِمَّا يُفقد الطفلَ ثقتَه بنفسه، فيكون مترددًا عند القيام بأيِّ عمل؛ خوفًا من حرمانه من رضا الكبار وحُبِّهم، وعندما يكبر هذا الطفلُ يكون شخصيةً انسحابية منطوية، غيرَ واثق من نفسه، يوجِّه عُدوانه لذاته، ويكون عنده شعورٌ بعدم بالأمان، ويتوقَّع الأنظار دائمًا موجهة إليه، فيخاف كثيرًا، لا يُحب ذاته، ويَمتدح الآخرين، ويفتخر بهم وبإنجازاتهم وقدراتهم، أمَّا هو، فيحطم نفسه ويزدريها.
♦ فعلى المربِّي أنْ يتوخى الحذرَ من الوقوع في مثل هذه الأخطاء في التربية؛ فهي - كما سلف ذِكره - تؤدي إلى وقوع الطِّفل في مشكلات كثيرة، قد تظلُّ معه حتى الكِبَر، وقد لا تُعالَج، وربَّما ندمنا بعد فوات الأوان.