إنها سنن الله في الظالمين المستبدين يمهلهم الله ما شاء أن يمهلهم ثم بين عشية وضحاها يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا وعد الله للمؤمنين ووعيده للظالمين، وشواهده في التاريخ حاضرة بأدنى تدبر، (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 26].
فقد تكفل الله الحكم العدل شديد العقاب بأخذ الظالمين والانتصاف للمظلومين مهما طال الزمان وامتدت الأيام، (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران: 196-197].
وقد شاهد العالم اليوم ما حل بحاكم تونس بعد أن (عاث) في الحكم دهراً يحارب الدين ويذل المستضعفين، ويتنكب نهج الزيتونة والقيروان التي أسس المسلمون بهما جامعين من أول وأشهر جوامع الإسلام في المغرب العربي، ثم كانتا جامعتين علميتين من أعرق الجامعات، خرجتا ابن عزوز وابن عاشور وغيرهما من العلماء الأفذاذ، فجاء هذا الرجل مكملاً خطى المفسد الأول فكان شر خلف لشر سلف، ما فتيء يحاول طمس ما جاء به عقبة بن نافع - رضي الله عنه -، وهدم ما شيده العشرة الذين بعث بهم إلى تونس الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فكان هذا الطاغية وبالاً على أحفاد عقبة وسحنون بن سعيد وأسد بن الفرات وابن أبي زيد الإمام وغيرهم من علماء الإسلام، ففرض عليهم علمانية متطرفة، مسخت قانون الأحوال الشخصية، ومنعت الحجاب، وخفضت صوت الآذان ومنادي الإيمان، وذلك بعض شرها!
مكث على ذلك قرابة ربع قرن يحكم البلاد بقبضة من حديد، ويفرض عليها النظم الغربية الكافرة، ويبدل ما استطاع من منهجها الإسلامي المتين، مدعوماً من الغرب النصراني وبعض الشرق، فغرته الدساكر وجموع العساكر فأسفر عن وجهه الكالح، وأبدى بكل بجاحة عورات دعاة الليبرالية، وأصبح مثلاً يقتدى عند بعض الأنظمة العربية، به يزهو الغرب، ويفتخر علمانيو العرب، فما هي إلا أيام وليال حتى انتفض الشعب المستضعف بشكل أذهل العالم، فهرب الطاغية قاصداً من ولاَّه وتولاَّه فرفضوه حتى ظل في الأجواء يبحث عن من يؤويه شريداً طريداً، ولنتدبر هذه الآية: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم: 26]. وما حلَّ به مصداق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس))، وهذا هو الجزاء العاجل لمن سام أمته وشعبه سوء العذاب فخلف فيها الدمار والخراب وما أعظم هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم: 28]. وكم في بقائه حياً من حِكَمٍ عظيمة وعبرٍ مؤثرة؛ ليتجرع الذل وسوء العاقبة.
فهنيئا لكم يا أهل تونس زوال الطاغية.. وحيا الله سواعدكم التي لوحت طويلاً بالرفض وحناجركم التي هتفت لأجل الحرية وصدوركم التي تعرضت لإطلاق الرصاص عارية.. رحم الله قتلاكم وعافى جرحاكم وأتم عليكم النعمة.
وأختم هذه الكلمات بهذه الوقفات:
1. من المهم دراسة سنن الله في الكون، فذاك مقوٍ للإيمان، جالبٌ للتفاؤل، طاردٌ لليأس والقنوط وسوء الظن بالله، باعثٌ على العمل الجاد الصادق، ومن أعظم فقه السنن معرفة عاقبة الظالمين: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
2. إن تسلط الظالمين فيه حِكَم وعِبَر وهو ابتلاء وامتحان: (فما نزل بلاءٌ إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة)، ولذلك فإن هذا الطغيان الذي يمارسه الطغاة على شعوبهم من أعظم المصائب، فلنتدبر الأسباب: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30]. ومن أعظم ما تكسبه الأيدي البعد عن شرع الله، ليس على مستوى الأنظمة فحسب، بل على مستوى الأفراد والشعوب، فإذا ابتعد الناس عن شرع الله أفراداً وجماعات وحكومات حلت بهم العقوبات، حتى ولو كان في المجتمع بعض الأخيار والصالحين مصداقاً لقوله - تعالى -: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25]، وتحقيقاً لقول الذي لا ينطق عن الهوى لما سألته أم المؤمنين أنهلك وفينا الصالحون قال: (( نعم إذا كثر الخبث)).
3. ذهاب طاغية وطرده شر طردة لا يلزم منه الخلاص من البلاء والفتنة إن لم يرجع الناس إلى دين الله، وقد يخلفه مثله أو شرٌّ منه كما هو مشاهد في كثير من البلاد الإسلامية، لذا لابد من توبةٍ صادقة، وعودة إلى الله خالصة ليرفع الله البلاء ويكشف الغمة (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وحذار من أن يحل بالناس آخر الآية: (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف: 96]، والضمانة من الهلاك هي وجود المصلحين المؤثرين في الأمة: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
4. على الإخوة المصلحين في تونس أن يوحِّدوا صفوفهم، ويعتصموا بحبل الله ويطفئوا هذه الفتنة التي أراد أتباع الهالك تأجيجها انتقاماً لسيدهم المطرود فقد كان بلاءً أثناء وجوده فأرادها دماراً بعد ذهابه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) [إبراهيم: 28]، فعلى المخلصين العقلاء أن يفوتوا هذه الفرصة على هؤلاء المتربصين، وأن يحقنوا الدماء ويحفظوا الأموال والأعراض فلا يجوز أن تنتهب الأموال وتنتهك الأعراض ويخل بالأمن بحجة أن فلاناً كان من أعوان النظام؛ بل لابد من محاكمة شرعية عادلة يأخذ فيها كل ظالمٍ جزاءه العادل، وليس عن طريق إشاعة الفوضى والدمار، وعليهم أيضاً أن يتجاوزوا ما بينهم من خلاف؛ تحقيقاً لمصالح عظمى ودفعاً لمفاسد كبرى، ثم بعد ذلك عليهم أن يتحاوروا في مسائل الخلاف متخذين من كتاب الله منهجاً وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نبراساً وحكماً ملتزمين بقوله - سبحانه -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
5. على الشعب التونسي أن تتفق كلمتهم على اختيار من يحكمهم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يستبدل ظالم بآخر بسبب اختلاف الصالحين وتفرق كلمتهم وتشتت مواقفهم، ولا يجوز أن تغلب الحزبيات الضيقة ومصالح الجماعات الخاصة على مصالح الأمة العظمى، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، وليحذروا من شر التفرق والتشرذم (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [لأنفال: 46]، فالأعداء بدؤا يوحِّدون صفوفهم ويتناسون خلافاتهم بدعمٍ من أسيادهم النصارى في الغرب، وذلك لاختيار عميلٍ جديد بدل عميلٍ تالف؛ حفاظاً على ما أرساه ذاك المطرود المشؤوم من فساد وحرب على الإسلام وأهله طيلة ربع قرن.
6. وأخيراً فإن على المسلمين في شتى بقاع الأرض أن يقفوا مع إخوانهم في محنتهم، وألا يخذلوهم في موقف يحتاجون فيه إلى نصرتهم، فمن خذل مسلماً خذله الله كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (( ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله - تعالى -في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))، وعليهم ألا يكونوا عوناً لأعدائهم عليهم فتحل بهم العقوبة كما حلت بغيرهم.
كما أن على الحكام والشعوب أن يستلهموا الدروس والعبر مما حل في تونس، ويوقنوا بأن الظلم والبُعد عن شرع الله موجب للخسار والدمار والبوار، وأن الركون إلى الظالمين في الشرق والغرب والولاء لهم سبب لغضب الله في العاجل والآجل: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]، وفي الدنيا قد رأينا خذلان الغرب والشرق لعملائهم في الشدة، كما حدث في بلادٍ كثيرة وآخرها ما حدث لربيب الغرب في تونس، وحليفهم والقائم على مصالحهم (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2].
وعلى الشعوب أن تلجأ إلى ربها في سرائها وضرائها، وأن تحسن الظن به فنهاية الظالمين واحدة، وزوالهم سنة جارية، (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 5]، وأن يتفاءلوا بمستقبل مشرق واعد لهذا الدين مهما كاد الكائدون ومكر الماكرون وتحالف الظالمون، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8] حمى الله بلادنا وبلاد المسلمين وإخواننا في تونس من كل شر وفتنة وبلاء، وأصلح ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين، وهداهم إلى ما فيه صلاحهم وصلاح بلادهم وشعوبهم وأمتهم، وخلف على إخواننا في تونس بولي أمر يصلح ما فسد، ويقيم ما اعوج، ويحكم بشرع الله.
و رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد و على آله وصحبه أجمعين،،،
Ahmed Roushdy
الكاتب
موضوع: رد: يا أهلنا في تونس..تهنئة وتذكرة الثلاثاء 18 يناير - 10:00
جميل الكلام ده مشكور ابو انس
همسة مديره المنتدى
موضوع: رد: يا أهلنا في تونس..تهنئة وتذكرة الثلاثاء 18 يناير - 16:18