الفصل الرابع والعشرون يا قليل الهمة يا طريد
يا راحلا بلا زاد والسفر بعيد، العين جامدة والقلب أقسى من الحديد. من ألوى منك بالضراء وأنت تغرق في بحر المعاصي في كل يوم جديد. ما أيقظك الشباب ولا أنذرك الاكتهال، ولا نهاك المشيب، ما أرى صلاحك الا بعيد، فديت أهل العزائم، لقد نالوا من الفضل المزيد، طووا فراش النوم، فلهم بكاء وتعديد، دموعهم تجري على خدودهم، خدّدت في الخدود أي تخديد، ما أنت من أهل المحبة ولا من العشاق يا قليل الهمة يا طريد.
لأمر ما تغيرا الليالي وأنت على البطالة لا تبالي
تبيت منعّما في خفض عيش وتصبح في هواك رخيّ بال
ألم تر ان أثقال الخطايا على كتفيك أمثال الجبال
أتكسب ما اكتسبت ولا تبالي هل هو من حرام أو من حلال
اذا ما كنت في الدنيا بصيرا كففت النفس عن طرق الضلال
ألا بأبي خليل بات يحيى طويل الليل بالسبع الطوال
بقلب لا يفيق عن اضطراب وجفن لا يكف عن انهمال
أرى الأيام تنقلنا وشيكا الى الأجداث حالا بعد حال
سأقنع ما حييت بشطر بر أشيّعه بريّ من زلال
اذا كان المصيرالى هلاك فما لي والتنعّم ثم ما لي
أما لي عبرة فيمن تفانى على الأيام من عم وخال
كأن بنسوتي قد قمن خلفي ونعشي فوق أعناق الرجال
يعجلن المسير ولست أدري لدار الفوز أم دار النكال
يبيد الكل منا دون شك ويبقى الله بري ذو الجلال
يروى عن رجل من أصحاب داود الطائي أنه قال: دخلت على داود، فقال لي: ما حاجتك؟ قلت: زيارتك، فقال: أما انت، فقد عملت خيرا حين زرتنا، ولكن أنظر ما ينزل بي اذا قيل لي: من أنت فتزار، أمن العبّاد أنت؟ لا والله. أمن الزهاد أنت؟ لا والله، ثم أقبل يوبّخ نفسه ويقول: كنت في الشباب فاسقا، وفي الكهولة مداهنا، فلما شخت صرت مرائيا. لا والله، الا المرائي أشد من الفاسق، وجعل يقول: يا اله السموات والأرض، هب لي رحمة من عندك تصلح شبابي وتقيني من كل سوء، وتعلى في أعلى مقامات الصالحين مكاني.
اسمع يا أخي مقامات الرجال، وكرامات ذوي الأحوال، الذين اختصهم مولاهم وحباهم بالافضال.
وعن عبدالله بن عبدالرحمن قال: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي، فعرض لهم أسد في بعض الطرق، فقال له سفيان: أم ترى كيف قطع علينا الطريق، وأخاف الناس. قال شيبان: لا تخف، فلما سمع الأسد كلام شيبان، بصبص اليه، وأخذ شيبان بأذنه وفركها، فبصبص وحرك ذنبه وولى هاربا، فقال سفيان: ما هذه الشهرة يا شيبان؟ قال: أو هذه شهرة يا سفيان؟ لولا مكان الشهرة لوضعت زادي على ظهره حتى أتيت مكة.
يروى عن عبدالرحمن بن أبي عباد المكّي أنه قال: قدم علينا شيخ يكنى بأبي عبدالله. قال: أقبلت في السحر الى بئر زمزم، واذا بشيخ قد سدل ثوبه على وجهه، وأتى البئر واستسقى، قال: فقمت الى فضلته، فشربت منها. فاذا هو ماء مضروب بعسل لم اذق ماء أطيب منه. فالتفتّ فاذا بالشيخ قد ذهب، فلما كان في السحر في الليلة الثانية أتيت البئر واذا بالشيخ دخل من باب المسجد قد سدل ثوبه على وجهه، فأتى البئر واستسقى، فشرب وخرج، فقمت الى فضلته، فاذا هو سويق ألذ ما يكون، فلما كان في الليلة الثالثة، أتى البئر أيضا، واستسقى. فأخذت طرف ملحفته، ولففته على يدي، ثم شربت فضلته، فاذا هو لبن مضروب بسكر لم أذق قط أطيب منه، فقلت يا شيخ، بحق هذا البيت عليك، من أنت؟ قال: تكتم عليّ. قلت: نعم. قال: سفيان الثوري.
لله درّ أقوام أفناهم شهوده عن وجودهم، فحالهم لشوقه مستديم، أقطعهم اقليم الكرى ما أبعده من اقليم، حماهم عن الأغيار غيرة عليهم، وخلع عليهم حلل الرضا والتسليم، سقاهم مدام الالهام، فيا له من مدام، ويا له من نديم، أسبل على المعاصي ستره، ليعود الى بابه الكريم، تقرّب برحمته للمذنبين، ليسكن روع المفلس من الطاعة العديم، أرسل اليه رسائل اللطف على يدي رسول كريم: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم} الزمر 53.
وأنشدوا:
ألا قف بباب الجود واقرعه نادما تجده متى جئته غير مرتج
وقل عبد سوء خوّفته ذنوبه فمدّ اليكم ضارعا كف مرتجي
ويروى عن أبي ريحانة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ركب البحر، فكان يخيط في السفينة، فسقطت ابرته، فقال: أعزم عليك يا ربّ الا رددت عليّ ابرتي، فظهرت له حتى أخذها بيده.
قال: واشتد عليهم البحر، فقال له: اسكن، انما أنت عبد حبشيّ، فسكن حتى صار مثل الزيت، رضي الله عنه، ونفعنا ببركاته.