الفصل الثالث والعشرون متى تقف بالباب؟
يا من سوّف بالمتاب حتى شاب، يا من ضيّع في الغفلة أيام الشباب، يا مطرودا بذنوبه عن الباب، اذا كنت في الشباب غافلا، في المشيب مسوّفا، متى تقف بالباب؟ كم عوملت على الوفاء؟ ما هكذا فعل الأحباب، الظاهر منك عامر، والباطن ويحك، خراب، كم عصيان كم مخالفة، كم رياء, كم حجاب؟ ولّى طيب العمر في الخطايا، يا ترى تعود الى الصواب؟.
ما بعد الشيب لهو، كيف يجمل بالشيخ التصاب؟ أنت لو قدمت في متقادم عمرك الطاعة، لخفف عنك الحساب. كيف والعمر ولى في الغفلة وفي طلب الأسباب؟ اذا أنذرك المشيب بالرحلة، ولم تقدّم الزاد ماذا يكون الجواب.
ليت شعري أهل المعاصي كيف عيشهم يطيب { ولو ترى اذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب} سبأ 51.
يروى أن محمد بن واسع رأى شبابا في المسجد، قد خاضوا في بحر الغيبة والضلالة، فقال لهم: أيجمل بأحدكم أن يكون له حبيب، فيخالفه ليفوز به غيره؟ فقالوا: لا. فقال: أنتم قعود في بيت الله تخالفون أمره، وتغتابون الناس. فقالوا: قد تبنا. فقال: يا أولادي، هو ربكم وحبيبكم، واذا عصيتموه، وأطاعه غيركم، خسرتموه. وربحه غيركم، أفلا يضرّكم ذلك؟ قالوا: نعم. فقال: ومن خالفه، وربما يعاقبه لو عاقبه، أفلا تغيرون على شبابكم كيف يعاقب بالنار والعذاب وغيركم يفوز بالجنة والثواب. قالوا: نعم وحسن رجوعهم الى اله تعالى.
وأنشوا:
ألا فاسلك الى المولى سبيلا ولا تطلب سوى التقوى دليلا
وسر فيها بجد وانتهاض تجد فيها المنى عرضا وطولا
ولا تركن الى الدنيا وعوّل على مولاك واجعله وكيلا
وان أحببت أن تعتزّ عزا يدوم فكن له عبدا ذليلا
وواصل من أناب اليه واقطع وصال المسرفين تكن نبيلا
ولا تفني شبابك واغتنمه ومثل بين عينيك الرحيلا
ولا تصل الدنيا واهجر بنيها على طبقاتهم هجرا جميلا
وعامل فيهم المولى بصدق يضع لك في قلوبهم القبولا
ومن كتاب أنس المريدين وقدوة الزاهدين: قال يزيد بن الحباب: مررت بحمدونه المجنونة وهي قاعدة على قارعة الطريق وعليها جبّة صوف مكتوب بين كتفيها، بمداد هذا البيت المفرد:
سلب الرقاد عن الجفون تشوقي فمتى اللقا يا وارث الأموات
قال: فسلمت عليها، فردت السلام، فقالت: ألست أنت يزيد بن الحباب؟ قلت: لها، نعم، فبم عرفتيني؟! قالت: اتصلت المعرفة في الأسرار، فعرفتك بتعريف الملك الجبار، ثم قالت: أسالك. قلت: اسالي. قالت: ما هو السخاء في الدين؟ قلت لها: المسارعة الى طاعة المولى. قالت: يا يزيد. آه آه، ليس هذا مسارعة، انما المسارعة الى طاعة الله أن لا يطلع على قلبك وأنت تريد منه شيئا بشيء، ثم أنشأت تقول هذين البيتين:
حسب من الحبيب بعلمه أن المحب ببابه مطروح
فاذا تقلب في الدنا ففؤاده بسهام لوعات الهوى مجروح
ويروى عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قرأ{ واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} البقرة 281، فقال: هذه موعظة وعظ الله بها المسلمين، وذلك أن الحور العين تقول لولي الله، وهو متكئ على نهر العسل وهي تعطيه الكأس، وهما في سرور ونعيم: أتدري يا حبيب الله متى زوجنيك الله ربي؟ فيقول: لاأدري. فتقول: نظر اليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين وأنت في ظمأ الهواجر، فتباهى بك الملائكة، وقال: أنظروا يا ملائكتي الى عبدي، ترك شهوته ولذته، وزوجته وطعامه وشرابه رغبة فيما عندي، أشهدكم أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك.
لله درّ أقوام لا طفهم بأنسه، فتقرّبوا اليه بقلب سليم، أذاقهم حلاوة مناجاته، فكل منهم بحبه يهيم، أسكن قلوبهم حبه، فليلهم بالأشواق ليل سليم، طهرها من الهوى، فحب الدنيا عنها راحل، وحب الآخرة مقيم على كل حال لا يعرفون سواه، فأهلا به من تنعّم، وأهلا به من نعيم.
للصالحين كرامات وأسرار لهم من الله تخصيص وآثار
صفت قلوبهم لله واتصفت بالصدق واكتنفت بالنور أنوار
واستغرقت كل وقت من زمانهم في طاعة الله أوراد وأذكار
صاموا النهار وقاموا الليل ما سئموا حتى تعرّفت على الظلماء أسحار
خلو به وراق الليل منسدل حتى لهم قد تجلت منه أنوار
طوبى لهم فلقد طابت حياتهم وشرّفت لهم في الناس أقدار
فازوا من الله بالزلفى وأسكنهم جنات عدن فنعم الدار والجار
ويروى عن ابراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه كان على بعض جبال مكة يحدّث أصحابه، فقال: لو أن وليا من أولياء الله تعالى قال لهذا الجبل: زل، لزال فتحرّك الجبل، فضربه ابراهيم برجله، وقال له اسكن، انما ضربتك مثلا لأصحابي.
وروي عنه أيضا أنه ركب البحر فتحرك ريح عاصف فوضع ابراهيم رأسه ونام، فقال أصحابه: أما ترى ما نحن فيه من الشدة، فقال: أوهذه شدة؟ قالوا: نعم، قال: لا، وانما الشدة الحاجة للناس، ثم قال: الهي، أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك، فصار البحر كأنه قدح زيت.
وعنه أيضا أنه كان في بعض الطرق مع أصحابه، فتعرّض لهم أسد، فقال له أصحابه: يا ابراهيم، هذا السبع قد ظهر لنا، فقال: أرونيه، فلما نظر اليه ابراهيم، قال: يا قسورة، ان كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به، والا فتنحّ عنا.
قال: فضرب الأسد بذنبه، وولى هاربا، فتعجبنا منه حين فقه كلام ابراهيم، رضي الله عنه ونفعنا به.