الفصل الموفى عشرين أكثر العمر قد مضى
يا أسيرا في قبضة الغفلة، يا صريعا في سكرة المهلة، يا ناقض العهد، انظر لمن عاهدت في الزمن الأول، أكثر العمر قد مضى، وانت تتعلل، يا مدعوّا الى نجاته وهو يتوانى، ما هذا الفتور والعمر قد تدانى، كأنك بالدمع يجري عند الموت هتانا.
يا أخي ما أحسن ما كنت فتغيّرت، ما أقوم جادتك، فكيف تعثرت؟ يا معشر المطرود عن رفاق التائبين { وما من غائبة في السماء والأرض الا في كتاب مبين} النمل 75.
كان بعض الأغنياء كثير الشكر فطال عليه الأمد، فبطر وعصى، فما زالت نعمته ولا تغيّرت حالته، فقال: يا رب، تغيّرت طاعتي، وما تغيّرت نعمتي، فهتف به هاتف يقول: يا هذا: ان الأيام الوصال عندنا حرمة وذمام، حفظناها نحن لك، وضيّعتها أنت لنا.
وأنشدوا:
سأترك ما بيني وبينك واقفا فان عدت عدنا والوداد سليم
تواصل قوما لا وفاء بعهدهم وتترك مثلي والحفاظ قديم
قال رجل لحاتم الأصم رضي الله عنه: أوصني بشيء أتصل به الى باب الله سبحانه وتعالى، فقد عزمت على سفر الحج.
فقال: يا أخي، ان أردت أنيسا، فاجعل القرآن أنيسك، وان أردت رفيقا، فاجعل الملائكة رفقاءك، وان أردت حبيبا، فالله سبحانه يتولى قلوب أحبابه، وان أردت الزاد، فاليقين بالله سبحانه وتعالى نعم الزاد، واجعل البيت قبلة وجهك، وطف بسرّك حوله.
وقال عطاء السليمي لعمر بن يزيد السلمي: أوصني:
فقال: يا أحمد، الدنيا بلاء في بلاء مع هوى النفس ومقارنة الشيطان، والآخرة بلاء في بلاء مع الموافقة والحساب. فيا لها من نفوس مضمحلة فيما بينهما، فحتى متى تسهو وتلعب وملك الموت في طلبك لا يغفل عنك، والملائكة يكتبون عليك أنفاسك.
قال: فخرّ مغشيا عليه.
يا من صحيفته سوداء، اغسلها بالدموع، وتعرّض لمجال المتهجدين، وقل: ضال ضل عن الطريق مقطوع، وهذا مأتم الأحزان، الى أي وقت تدّخر الدموع، هذا مجلس الشكوى، هذا وقت الرجوع.
فبادروا اخوتي، وافهموا أسرار المراد:{ فستذكرون ما أقول لكم وأفوّض أمري الى الله ان الله بصير بالعباد} غافر 44.
وأنشدوا:
ما الذنب لي فيما مضى سالفا الذنب للدهر وسوء القضا
فامنن وجد بالصفح عن مذنب معترف بالذنب فيما مضى
قد ظل من خوفك في حيرة في قلبه منك لهيب الفضا
ان كان لي ذنب فلي حرمة توجب لي منك جميل الرضا
ومن كتاب لوامع أنوار القلوب، قال الأصمعي: كنت مارا في البادية، واذا أنا بامرأة كأنها فلقة قمر، فدنوت منها، وسلمت عليها، فأحسنت اليّ الرد، ثم قلت: يا جارية، كلّي بكلّك مشغول، فقالت في الحال: كلّي لكلّك مبذول، ولكن ان أعجبك حسني فانظر خلفك فانك ترى من هي أحسن مني، فنظرت خلفي، فما رأيت أحدا، فصرخت علي وقالت: اليك عني يا بطّال، لما رأيتك من بعيد حسبتك عارفا، فلما تكلمت حسبتك وامقا، واذا بك يا مسكين لا عارفا ولا وامقا، تدّعي محبتي وتنظر الى غيري، وأنت لم تصل الى قربي، ثم ولّت عني، ورمقت الى السماء بطرفها، ونادت، آه.. آه، حب الوصال شرّدني، آه آه، خوف القطيعة أزعجني، آه من الانفصال قبل الاتصال، وجعلت تقول:
حبي في ذي القفار شرّدني آه من الحب ثم آه
خوف فراق الحبيب أزعجني آه من الخوف ثم آه
شبه حالي بتاجر غرق نجا من البحر ثم تاه
ومن الكتاب المذكور: قال سالم: بينما أنا سائر مع ذي النون المصري في جبل لبنان، اذ قال مكانك يا سالم حتى أعود اليك، فغاب عني ثلاثة أيام في الجبل، وأنا أطعم نفسي من نبات الأرض، وأسقيها من غدرانها اذا طالبتني بشيء من القوت.
فلما كان بعد ثلاثة أيام، عاد اليّ وهو متغيّر اللون، ذاهب العقل.
فقلت له: هل عارضك السبع يا أبا الفيض؟.
فقال: دعني من تخويف البشرية، اني دخلت كهفا من كهوف هذا الجبل، فرأيت فيه رجلا أبيض الرأس واللحية، أشعث أغبر، نحيفا، كأنه خرج من قبره، ذا منظر يهول وهو يصلي، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام، وقال لي: الصلاة، وقام الى الصلاة، فلم يزل راكعا ساجدا حتى صلى العصر واستند الى حجر كان بازاء محرابه، وهو لا يكلمني، فبدأته الكلام، وقلت له: يرحمك الله أوصني بشيء أنتفع به، وادع لي بدعوة.
فقال لي: يا بني، من آنسه الله سبحانه بقربه، أعطاه أربع خصال: عزا من غير عشيرة، وعلما من غير تعلّم، وغنى من غير مال، وأنسا من غير جماعة، ثم شهق شهقة لم يفق منها الا بعد ثلاثة أيام، حتى ظننت أنه ميّت، فلما أفاق قام وتوضأ من عين كانت الى جنبه وسألني عما فاته من الصلاة، فأخبرته، فقضاه، ثم قال لي:
ان ذكر الحبيب هيّج قلبي ثم حب الحبيب أذهل عقلي
وقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين. وأنست بذكر رب العالمين، انصرف عني بسلام.
فقلت: يرحمك الله، وقفت عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة منك. فقال: أحبّ مولاك ولا تحب غيره، ولا ترد بحبّه بدلا، فالمحبون لله سبحانه هم تيجان العبّاد، وأعلام الزهاد، وهم أصفياء الله وأحباؤه.
ثم صرخ صرخة ووقع فحرّكته، فاذا هو ميّت، فما كان الا هنيهة، واذا بجماعة من العباد قد انحدروا من الجبل فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، فسألتهم ما اسم هذا الشيخ الصالح؟ فقالوا: شيبان المصاب.
قال سالم: فسألت عنه أهل الشام فقالوا نعم، رجل مجنون، خرج من أذى الصبيان، فقلت لهم: هل تعرفون من كلامه شيئا؟ قالوا: نعم كان اذا ضجر يقول: اا أنا بك لم أجن سيدي فبمن أجن. رحمه الله ونفعنا به.