لا أحد على الإطلاق يمكنه الزعم بالقدرة على تحريك شباب ميدان التحرير
الثائر والمحتج الآن فى منطقة الغضب (التحرير وما يحيطه من شوارع)، حيث وضع
الجيش أسوارا حجرية، يؤكد بها فشله فى التعامل مع الأزمة، فكلما جاءته أو
فاجأته مشكلة أو افتعل أو اصطنع مواجهة بنى لها سورا، وكأننا أمام سياسة
الحواجز الحجرية، وهى ليست فى الشوارع فقط، بل هى فى دماغه ورأسه، بل وفى
قلبه تجاه هؤلاء الشباب، الذين كان لا يفهمهم، ثم صار لا يطيقهم، ثم بات
قاتلهم كذلك!
القوى المحتجة فى التحرير وشوارعه هى شابة بالضرورة، ثم هى منتمية إلى
جماعات وتيارات سياسية، لكن على طريقتها المتحررة المنطلقة، لا على طريقة
العجائز رموز هذه التيارات، ثم هناك كذلك مجموعات لا تنتمى إلى تنظيم ولا
إلى فريق سياسى، بل يوحدهم الحلم فى تحقيق أهداف الثورة، التى يرونها كل
يوم مخطوفةً ومسروقةً ومهزومةً، ولا تتحرك خطوة إلى الأمام إلا بتضحيات
واستشهاد هؤلاء الشباب، لا بقدرة القوى السياسية، ولا برغبة المجلس
العسكرى، بل إن أكثر التيارات فوزا فى الانتخابات البرلمانية، لم يصل إلى
هذه الانتخابات أصلا إلا بفضل هؤلاء الشباب، الذين يتنصل منهم بعض أفاق
السياسة الرخيصة!
ثم إن الشباب الغاضب والمحتج فى التحرير، هو الذى عانى من ضرب واعتداء
ووحشية الشرطة العسكرية، وهو الذى لم يجلس مع أعضاء المجلس العسكرى فى
قاعات مكيفة وتناول الغذاء مع الضحكات والتطرف والابتسامات كما فعل
السياسيون، ولم يجتمعوا فى جلسات فخيمة مهيبة وسط حشد الحراسات مع جنرالات
يتناقشون فى ترف وهدوء بنودا واقتراحات، بل هم الذين التقوا وجها لوجه
جنودا وضباطا يعتدون ويصفعون ويضربون ويصيبون وينتهكون الحقوق والأعراض
ويسبون ويلعنون ويكشفون عن عذرية البنات، هؤلاء الشباب واجهوا الغلظة
العسكرية والعنف الدموى، وسقط منهم وبينهم وفى أحضانهم شهداء من زملائهم،
ونزفت عيون أصدقائهم دماءً أمامهم، وارتمى المئات من أصحابهم خنقا تحت
أرجلهم، هؤلاء لم يروا فى المجلس العسكرى إلا التعامى والتعالى والتمادى فى
اتهامهم بالعمالة والبلطجة ونكران حقوقهم كمصابين وكأقارب وعائلات شهداء،
فتجمعوا طول الوقت على الحلم والغضب، على الصمود والتصدى، على فضح الكذب
ومواجهة الادعاءات، على مقاومة غلظة وعنف الشرطة العسكرية، هؤلاء الشباب
يرون نفاقا فى التصريحات المتنصلة من الضرب، بينما هم يتلقون الصفعات
واللكمات والركلات والسحل على الأرض بل والقتل، فيزدادون غضبا، ومن يهدأ
منهم ويعود إلى بيته يجد زملاءه تعرضوا لهجمة جديدة، فيعود أكثر غضبا
للانتصار لهم، وأكثر إصرارا على البقاء فى ساحة المواجهة، وهذا ما يفسر
الهدوء الذى يستمر أياما ثم الغضب المدوى المفاجئ!
هذه المجموعات، المسيسون منهم والمنظمون فيهم والثائرون والغاضبون وغير
المسيسين والبسطاء والطلقاء وأصحاب التاريخ الأسود مع الشرطة والجيش فى
المواجهات السابقة وأقارب وأصدقاء الشهداء فى المجازر السابقة، ومعهم
بالقطع بعض الفوضويين وراغبى العنف ضد السلطة، ومعهم صبية ينتقمون من
المجتمع الذى رمى بهم إلى الفقر والظلم والشارع، لا تملك أى شخصية عامة أو
سياسية أو فريق أو حزب التأثير فيهم، بل هؤلاء الشباب يقودون أنفسهم
بأنفسهم، ولا يسمعون غيرهم ولا يعيرونه أصلا اهتماما، فالكل فى نظرهم
متخاذل ومهادن وباع الثورة وباع حقوق الشهداء، ولا تفاوض مع أحلامهم، ولا
تراجع عن مواجهة الند بالند أمام أى معتدٍ عليهم من قوى الشرطتين العسكرية
والمدنية، وهذا ما يفسر أمرين:
أولا غياب أى قوى سياسية عن الميدان، وكل من يدعى إمكانية التأثير فى
حركة هؤلاء هو محض مدعٍ كذاب، ربما هناك من يتمتع باحترام وتقدير من هؤلاء
الشباب، لكن هذا الاحترام وقتى جدا، ومؤقت تماما، فإذا قال رأيا مخالفا
لأحلامهم أو داعيا إلى تخاذلهم لفظوه ولعنوه حتى لو كانوا يحبونه فعلا.
ثانيا أن كل محاولات الشرطتين العسكرية والمدنية إيقاف هؤلاء الشباب،
حين يعلنون غضبهم فاشلة بالثلث، ولن تنجح أبدا، فإن أكبر ما يثير قوة
وعزيمة هؤلاء هو التعرض للضرب والاعتداء، فهذا يجعلهم أقوى عزيمة وأخلص
لمشروعهم، وأعتى فى عنفهم وغضبهم، وكما رأينا سقط ثلاثة وأربعون شهيدا فى
محمد محمود (فضلا عن أكثر من ألفى مصاب)، لكن الشباب لم يتراجع إطلاقا،
واعتصم ثم نقل اعتصامه إلى مجلس الوزراء، حيث شعر بالاستخفاف والإهانة
وتلويث الثورة بحكومة يرأسها رجل من خارج الثورة، ومن خارج مشروعها، ومن
خارج المستقبل، ورغم سقوط أحد عشر شهيدا (فضلا عن مئات المصابين) فى مجلس
الوزراء، فإن الشباب مستمر فى غضبه ضد الجيش ولا يردعه فى ذلك غشم الضباط
وعنفهم وتخليهم عن القيم الوطنية للجيش المصرى!
لا ينفع مع هؤلاء الشباب مليون مكالمة تليفون فى الفضائيات، تلعنهم
وتولول هجوما عليهم أو تدعو إلى ضربهم وحرقهم، ولن يؤثر فيهم مليون مذيع أو
ضيف أو سياسى أو لواء يتهمهم بالعمالة أو البلطجة، ولن يثنيهم عن غضبهم
مدافع ولو نابلم (وهل هناك أكثر من مدرعات تدهس، ومع ذلك لم يخافوا أو
يتراجعوا!)، ولن يقنعهم ألف سياسى معارض أو برلمانى منتخب، وطبعا لن يهدئهم
شيوخ السلفيين أو دعاة الإخوان، ولن يردعهم مواطنو المجلس العسكرى الشرفاء
الذين يسبون الشباب ويلقون عليهم الحجارة، هؤلاء الشباب قد يهدؤون اليوم
أو غدا بقرارهم وحدهم، ثم ستعود حادثة لتفجرهم تماما مرة أخرى، لأنهم
يطلبون شيئا واحدا: ثورتهم الضائعة وحلمهم المسلوب من «العسكرى» بقراراته
وقوانينه وتصريحاته وتصرفاته وشرطته العسكرية.
تسليم السلطة لمدنيين هو الحل الوحيد، وحتى هذا الحين (قريب أم بعيد) جربوا معهم طائرات الـ«إف 16»، ومع ذلك لن يستسلموا أبدا.
بالقطع كثير منا مستغرب جدا من هؤلاء الشباب، وملايين المشاهدين لمصر من
خلال برامج التليفزيون مذهولون منهم، ويسألون مستنكرين: هى العيال دى
عايزة إيه؟
وهذا استغراب طبيعى جدا، فقد كانت هذه نفس مشاعر الشعب يوم رأوا فتية
آمنوا بربهم يصعدون إلى كهف يأويهم من مجتمعهم الظالم الفاسد، وكان الجميع
ساعتها يسأل مستغربا جدا ومستنكرا للغاية قائلا: هى العيال دى عايزة إيه؟
الحقيقة أن العيال دى عايزة حاجة واحدة: عايزة حقها.
كون بقى أن الشعب المصرى تعود على أن يفرّط فى حقه، فهذه مشكلته هو، تخر
على دماغه، لكن العيال دى لن تسكت قبل أن تسترد حقها، ولديها ميزة فظيعة
غير موجودة عندنا، أنها ولا يهمها التخين!!