يتعرض الإنسانُ على مدار حياته إلى فتن بعضها قد يكون ظاهرًا، والآخر يكون باطنًا، ولن ينجو من هذه الفتن إلا مَن حفظه الله منها، ولكن البعض عندما يسمع كلمة "فتنة" ذهنه يذهب إلى فتنة النساء أو المال أو المنصب والجاه، وما دام لم يتعرض إلى شيء من هذه الأشياء يظن أنه بعيدٌ عن الفتن.
صحيحٌ أن هذه الأشياء من الفتن القاتلة التي قد تفتك يإيمان العبد وتذهب به، ولكن لا بد أن نعلم أن كل واحد منا يتعرض كل يوم إلى فتن كثيرة، وقد يقع في هذه الفتن ولا يدري أنه وقع فيها.. وهنا مكمن الخطورة.
والفتن قد تكون ظاهرةً مثل فتنة النساء والمال والوقوع في المعاصي، وقد تكون باطنةً كالأمراض القلبية من رياء وعجب وحب شهرة، وقد تكون بسماع شائعةٍ وترويجها دون التثبت من صحتها، والإنسان في كل مراحل حياته من خيرٍ وشرٍّ يتعرَّض للفتن.. قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (الأنبياء: من الآية 35).
كما أن الإنسان منذ أن يقوم من نومه ويخرج إلى عمله ويرجع إلى بيته يتعرض إلى فتن، وحتى بعدما يعود إلى البيت يتعرض أيضًا إلى الفتن، فالزوجةُ والأولادُ فتنةٌ كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)) (التغابن)، فقد يبخل الإنسان بماله ولا يُخرج زكاته حتى يُوفِّر المال لأولاده وزوجته، وقد يسرق أو يقبل الرشوة من أجل زوجته وأولاده، فيكون قد وقع في الفتنة، وأصبح الأولاد فتنة للرجل.
وهذه الفتن المنتشرة في الحياة الدنيا تُعرض كل يوم على قلوبنا، فهناك قلوب بمجرد العرض تُحبها وتهواها وتشربها وتفرح بها، وقلوب أخرى تُنكرها من البداية ولا تسمح لها باختراقها وتضع حائطَ سدٍّ منيع أمامها.
أسمع أخي القارئ إلى حبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَعَرْضِ الْحَصِيرِ عُودًا عُودًا. فَأَيُّ قَلْبٍ أُشرِبَهَا نُكِتَتْ فِيه نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حَتَّى تَعُودَ الْقُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ: قَلْبٍ أَسْوَد مُرْبَادًا كالكُوزِ مُجَخِّيًا. لا يَعْرِفُ مَعْروفاً وَلا يُنْكِرُ مُنْكَراً، إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ، وَقَلْبٍ أَبْيَض لا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّماواتُ وَالأرْضُ".
فعندما يؤذن لصلاة الفجر، يكون النوم الجميل فتنةً، والخروج في الجو البارد إلى المسجد لأداء صلاة الفجر في وقتها فتنة.. هل يستيقظ المسلم ويترك فراشه الدافئ ويمشي في البرد ليرضي ربه، أما ينام ولا يصلي إلا بعد شروق الشمس، فإن نام يكون قد وقع في فتنة، ويشرب قلبه هذه الفتنة، ويكون مُعرَّضًا لغيرها؟.
وعندما يمشي في الشارع سيجد فتنة النساء.. فهل يغض بصره ويحفظ نفسه من هذه الفتنة؟ أم يطلق لنفسه العنان ويشرب قلبه هذه الفتنة؟، وكذلك عندما يذهب إلى عمله يجد الفتن أيضًا.. هل يتقن عمله ويؤديه على أكمل وجه أم يضيع وقته حتى تنقضي ساعات العمل؟!. والموظف قد تُعرض عليه رشوة فينظر إلى المال الحرام وهو يعلم أن راتبه قليل لا يكفي احتياجات بيته الأساسية ويظل في صراع مع نفسه أمام هذه الفتنة.. أيقبل الرشوة أم يُنكرها من الأساس، ويرفض أن يطعم أهله وأولاده من مال حرام؟.
بل الداعية والخطيب أيضًا يتعرض للفتنة، فقد يتعرض لفتنة الشهرة وإعجاب الناس به، فيدخل العجب قلبه، ويحب أن يحمده الناس، فيضيع أجره ويقع في الفتنة.
ومن الفتن أيضًا إشاعة الأكاذيب عن الصالحين والترويج لها في وسائل الإعلام وفي المجتمع، فهل أُرددها مع المرددين، وأُروِّج لها مع المروجين، أما أتوقف وأتثبت من صحة الأخبار؟.. كما فعل الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري وزوجته رضي الله عنهما عندما سمعا بحادثة الإفك وما أشاعه المنافقون عن السيدة عائشة قالت زوجته: "يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة، رضي الله عنها؟ قال: "نعم، وذلك الكذب.. أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: "لا والله ما كنتُ لأفعله". قال: "فعائشةٌ والله خيرٌ منكِ".. فنزل قول الله عز وجل: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)) (النور).
أخي الحبيب.. كل واحد منا يتعرض إلى فتن، ولكن فتنة كل واحد منا قد تختلف من شخصٍ لآخر، ولكن عندما تأتي الفتنة لا بد بدايةً من إنكارها بقلوبنا، والبعد عنها بأجسامنا، وعدم الوقوع فيها حتى تُنكت في قلوبنا نُكتةً بيضاء وتصير قلوبنا بيضاء نقية لا تضرها فتنة بعد ذلك، أما من يرى الفتنة ولا يُنكرها بل يهواها ويتمناها ويقع فيها، سوف تُنكت في قلبه نكتة سوداء ثم تكبر هذه النكتة حتى يصير قلبه- والعياذ بالله- أسود لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وتتوالى الفتن عليه بعد ذلك حتى يهلك وهو بعيدٌ عن ربه.
فبداية النجاة من الفتن إنكارها أول ما تُعرض على قلبك، ثم اللجوء والاعتصام بالله عز وجل والدعاء بأن يحفظك الله منها.
كما أن سبب الوقوع في الفتن إما شُبهة وإما شهوة، فالشبهة مثل التشكيك في الدين أو البدع أو اختلاط الأمر على الإنسان فلا يُميِّز بين الحلال والحرام، أو بين الصواب والخطأ، ونتقي هذه الشبهة بالتعلُّم وسؤال أهل العلم.
أما الشهوات فنتقيها بالبعد عن المعاصي وصحبة الأخيار وشغل النفس بطاعة الله، وتذكُّر الموت ووقوعه فجأةً، وتذكُّر قصر هذه الحياة الدنيا ومصير الإنسان بعد ذلك في الدار الآخرة إما إلى جنة أبدًا وإما إلى نار أبدًا.
أسأل الله العلي العظيم أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُطهِّر قلوبنا، وأن يثبتنا على الحق حتى الممات، ويختم لنا بالصالحات، ويدخلنا مع الحبيب المصطفى الجنات.. اللهم آمين وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
