الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد: إن الإنسان
ليغتر بقوته، والله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة، وقد جعل الله
لهذا المخلوق من الحواس ما يهديه في عالم المحسوسات، ومن أعظم هذه الحواس
نعمة العين. بما فيها من قدرة الدقة في التركيب، وحسن الهيئة، وبهاء
المنظر والقدرة على الإبصار، هذه العين بما ترى في صفحات هذا الكون من
دلائل القدرة، وموجبات الإيمان، وهو معروضة في صفحات الكون، مبثوثة في
حناياه (في ظلال القرآن بتصرف).
وظيفة العين:إن
لكل عضو في جسد الإنسان وظيفة منوطة بها، فالله -سبحانه- قد خلق العين
لوظيفة سامية، فقد خلقت العين؛ لتبصر الطريق وآفاته، والكون وآياته، وترى
الأهل والأحباب، والولد والأصحاب، خلقت لرؤية إشراقة الشمس وغروبها وجمال
البدور وبهائها ونزول الغيث بعد إمساكها، وإخضار الأرض بعد ذبولها، خلقت
لكي ترى الليل يعقبه النهار، والنهار يعقبه الليل، خلقت لتتأمل في جريان
الوديان والأنهار، كل ذلك لكي تصل إلى حقيقة واحدة... وهو الاهتداء إلى
معرفة الواحد القهار (منبريات، لأحمد السديس، بتصرف).
حياء العين:قال
النبي: {استحيوا من الله حق الحياء}، قلنا: "يا رسول الله إنا لنستحي
والحمد لله"، قال: {ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ
الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد
الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا}، يعني: من الله حق
الحياء [رواه الترمذي، وحسنه الألباني].
فالحياء الشرعي للعين أن يتحفظ نفسها من النظر إلى ما حرم الله فإن العين إذا أشتد حياؤها؛ صانت صاحبها، ودفنت مساوئه، ونشرت محاسنه.
قال ابن حبان: (ومن ذهب حياؤه؛ ذهب سروره، ومن ذهب سروره؛ هان على الناس).
إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا *** وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع
(الحياء هو الحياة، بتصرف).
النظر بريد الزنا:النظر
أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فإن النظرة تولد خطرة، ثم تولد
الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير
عزيمة جازمة؛ فيقع الفعل، ولابد ما لم يمنع منه مانع (الداء والدواء).
عن
أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي: {إن الله كتب على ابن آدم حظه من
الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس
تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه} [رواه البخاري]. ويقول
القاسمي في تفسير قوله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [سورة النور: 30]: "سر تقديم غض
البصر على حفظ الفرج، هو أن النظر يريد الزنا ورائد الفجور".
لا تتبع النظرة النظرة:النظرة...
سهم من سهام إبليس المسمومة، ورائد الشهوة، النظر المحرم، يثمر في القلب
خواطر سيئة رديئة، وقد أمر الله تعالى عبادة بأن يغضوا أبصارهم قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ
ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
[سورة النور: 30].
يقول الشيخ سيد قطب: إن الإسلام يهدف إلى
إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات
اللحم والدم في كل حين؛ فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني
لا ينطفئ ولا يرتوي.
والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة والزينة المتبرجة، والجسم العاري، كلها لا تصنع شيئا إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني فالمجنون.
فغض
البصر من جانب العين أدب نفسي ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع
على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام كما أن فيه إغلاقا للنافذة
الأولى من نوافذ الفتن والغواية، ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم
المسموم.
والواجب على المسلم إذا وقع نظره على ما حرم الله أن
يصرف بصره، ولا يتبع النظرة النظرة؛ لحديث الرسول لعلي رضي الله عنه: {يا
علي، لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة} [رواه أبو
داود، وحسنه الألباني].
آفة النظر إلى المحرم:إن النظرة كأس مسكر، وسكرة العشق، وسكر العشق أعظم من سكر الخمر فسكران الخمر يفيق، وسكران العشق أني يفيق!!
سكران، سكر هوى وسكر مدامة *** فمتى إفاقة من به شكران
صراع مع الشهوات:فالنظر
إلى الحرام سبب في هلاك العابد، وفسخ عزم الزاهد، وليحذر ذو العقل من
النظر؛ فإنه سبب الآفات، ومفتاح الشهوات، ومركب الهلاك والصراعات، غير أن
علاجه في بداية قريب وسهل، فإذا كرر تمكن الشر؛ فصعب علاجه (من كلام لابن
الجوزي بتصرف).
ومن آفات النظر إلى المحرم:أنه
يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادرا عليه ولا صابرا
عنه، وهذا من أعظم العذاب أن ترى ما لا صبر لك عنه، ولا عن بعضه، ولا قدرة
لك عليه.
إن حال من ينظر إلى الحرام كحال الذي يشرب من ماء
البحر المالح، أتراه يروى؟!.. لا، بل لا يزداد مع الشرب إلا عطشا، فهو
بهذا النظر لا يزيد شهوته إلا تأججا وشدة (صراع مع الشهوات).
فوائد عض البصر عن الحرام:ذكر ابن القيم جملة من الفوائد في غض البصر، منها: - امتثال أمر الرب جل وعلا الذي هو نهاية سعادة العبد دنيا وأخرى.
- أنه مانع من وصول أثر السهم المسموم إلى قلبك فيهلك.
- أنه يورث القلب أنسًا بالله، واجتماع القلب على الرب ولذة لا يجدها من أطلق بصره في الحرام.
- أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه.
- أنه يكسب القلب نورا كما أن إطلاق البصر يكسبه ظلمة.
- أنه يورث العبد الفراسة الصادقة التي يميز بها بين الحق والباطل، والصدق والكذب.
- أنه يورث القلب شجاعة وثباتا، ويجمع الله لصحابه سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة.
- أنه يسد على الشيطان مدخلا من مداخله على القلب، فإن بوابة القلب الكبرى النظرة.
- أنه يفرغ القلب للفكرة الصالحة والاشتغال بها.
-
أنبين العين والقلب منفذا وطريقا يوجب انفعال أحدهما بالآخر، وأنه يصلح
بصلاحه، ويفسد: فإن صلحت منظورات العبد؛ صلح قلبه، وإن فسدت؛ فسد.
قيل في البصر:من القرآن: - يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [سورة غافر: 19].
-
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36].
-
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ [النور: 30].
ومن السنة: - {إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر...} [رواه البخاري].
- عن جرير بن عبد الله قال: {سألت رسول الله عن نظر الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري} [رواه مسلم].
- {يا علي، لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة} [رواه أبو داود، وحسنه الألباني].
- {اضمنوا لي ستا من أنفسكم، أضمن لكم الجنة}، وذكر منها: {وغضوا أبصاركم} (رواه أحمد).
ومن أقوال الحكماء: -
النظرة سهم من سهام إبليس المسمومة. - النظرة رائدة الشهوة. - الصبر على
غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده. - حبس اللحظات أيسر من دوام
الحسرات.
ومن أقوال الشعراء: كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها *** كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طر بقلبه *** في أعين الغيد موقف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته *** لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
وقول ابن القيم: يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا *** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وبباعث الطرف يرتاد الشفاء له *** احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
ويقول الآخر: الحب أول شيء قد يهيم به *** قلب المحب فيلقي الموت كاللعب
ويكون مبدؤه من نظرة عرضت *** ومزحة أشعلت في القلب كاللهب
كالنار مبدؤها من قدحة إذا *** تضرمت أحرقت مستجمع الحطب
ويقول الآخر: ما زلت تتبع نظرة في نظرة *** في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذلك دواء جرحك وهو *** في التحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا *** فالقلب منك ذبيح أي ذبيح