(أم مازن) امرأة من صالحات زماننا ,راغبة في الخير, محبة للطاعة , معظمة لكتاب الله تعالى فهو جليسها في كل وقت وآن , البر عندها من أرجى أعمالها , محسنة للقريب والبعيد , زاهدة في الدنيا , مترفعة عن ملاذها الزائلة ,صابرة على البلاء , محتسبة أجرها عند ربها وخالقها.
بلغ الناس خبر وفاتها فبكاها القريب والبعيد وكيف لايُبكى على مثلها وهي مثال للخير في جوانبه كله,ومن أعظم الصور الدالة على صدقها وصلاحها أن بكاها جيرانها وفي هذا بشارة لها عظيمة فقد جاء في الحديث الصحيح" ما من مسلم يموت فتشهد له أهل أربعة أبيات من جيرانه الأدنين إلا قال الله قبلت علمكم فيه وغفرت له ما لا تعلمون"مجمع الزوائد , ورجاله رجال الصحيح.
-صور من عبادتها
أقول وأنا إمام الجامع الذي تصلي فيه , لا أعرف أن هذه المرأة قد أخطأتها صلاة التراويح والقيام منذ أكثر من عشر سنوات , بل تكاد تكون أول من يدخل الجامع وآخر من يخرج منه في ليالي رمضان وإن فُقدت عرفنا أنها في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام , حتى قالت إحدى الأخوات اللاتي يصلين معها في الحرم سأسميها فقيدت الصف الأول في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ,فلقد كانت كما تقول الأخت : لا يُخطئها الصف الأول في الحرم النبوي وان رأيتها رأيت امرأة إما تصلي أو أنها قد انكبت على كتاب الله تتلوه , أو رافعة يديها تطلب ربها (وقد نوت هذا العام أن تقضي رمضان في الحرم النبوي –نسأل الله أن لا يحرمها أجر النية -)
تقول إحداهن : كانت تصلي بين التراويح والقيام ما شاء الله أن تصلي مستغلة لهذا الزمان الفاضل فيما يقربها إلى الله .
ويقول أهل بيتها : كانت قوامة لليل , صائمة للنهار , لا يُعرف عنها أنها تركت قيام الليل إلا لعارض ,تصوم الأيام البيض , والاثنين والخميس لا يُخطئها صيامها ولا صيام الأيام الفاضلة
(فهلا عرفت قيمة هذه الطاعة وفضلها وحرصت عليها)
ومن صور الخير التي أعرفها عنها أنها كانت لا تفرط في حضور محاضرة أو درس لشدة حرصها وحبها لمجالس الخير
فأين الزاهدات في هذا الخير وقد شُغلن بتوافه الأمور , وضياع الأوقات ؟
ومن الصور الدالة على تأصل الخير فيها و قلما يحرص عليها الكثير(أنها لم تبن بيتها إلا بعد أن بنت مسجدا لله تعالى) وفي الحديث " من بنى مسجدا لله بنى الله له بيتا في الجنة" جعله الله مما أُعد لها قبل قدومها عليه .
بل من عظيم إخلاصها أنها كانت حريصة كل الحرص أن لا يعلم أحد بخبر هذا المسجد لأنها إنما تريد وجه الله تعالى.
برها في الوالدين وصلتها للرحم
قد عُرفت هذه المرأة بالبر للوالدين , ولما سألنا أهلها عن برها قالوا لا تسل , وماذا عسانا أن نقول لك ؟
هل نحدثك عن رعايتها لأمها ؟ وعدم غيابها عنها؟
أم نحدثك عن إحسانها لوالدها بعد وفاته؟
أو نذكر لك خدمتها لأمها بكل صور الخدمة ؟
لقد كانت حريصة أشد الحرص على برهما , وربما حرمت نفسها من أشياء لأجلهما
ومضة
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة قلت من هذا ؟ فقالوا : حارثة بن النعمان )
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كذلكم البر كذلكم البر [ وكان أبر الناس بأمه ] ) .أخرجه أحمد وهو صحيح
ومما تميزت هذه المرأة الصالحة –أنزل الله شآبيب الرحمة على قبرها- تعاهد القريبين بالصلة
والنصح والهدايا .
تقول أخواتها : كانت كثيرا ما تحثنا على صلة الرحم , ومواصلتهم في المناسبات , وتكسوا كثيرا منهم كل عيد حتى وإن كانوا أغنياء .
وربما مرت ببعض قرابتها ضائقة فكانت أول من يُسارع لفكها حتى وإن بلغ المال ما بلغ لأنها كانت تتاجر مع ربها وتحفظ قوله تعالى " ما عنكم ينفد وما عند الله باق" فتاجرت فيما بقي .
تربيتها لأبنائها
كانت حريصة أشد الحرص على تربية أبنائها والسعي في صلاحهم .
أما الذكور فكانوا من رواد المساجد –خاصة صلاة الفجر – .
ومن طلاب الحلقات , وحفظ بعضهم كتاب الله تعالى .
بل إن أحد أبنائها أم الناس وهو في الثانية عشرة من عمره يقول : كانت والدتي هي من دفعني لهذا الخير .
وكانت حريصة أشد الحرص على حجاب بناتها فتُلبسهن الحجاب وهن صغار .
تقول إحدى بناتها : كانت والدتي حريصة على أن أُحسن الصلاة وأؤديها على أكمل وجه وتحملنا المسؤولية في ذلك .
وهكذا ينبغي أن تكون المؤمنة التي تعلم أنها مسئولة عن أبنائها بين يدي الله تعالى
-حفظها للقرآن :
من الخير الذي خص الله به هذه المرأة أن جعل القرآن يسكن قلبها في حياتها الدنيا , قد أشغلها عن الناس ومجالسهم الفارغة , كانت تتلوه في صبحها ومسائها مما جعلها تختمه في كل أسبوع مرة , على الرغم من أنها ربة بيت وأم لأولاد ومديرة لمدرسة وبلغت سنا قلما يحفظ المرء فيه القرآن إلا أنها عزمت على ختمه , فأعطاها الله ما أرادت لصدق نيتها , وقوة عزيمتها , فماذا عسى أن تقول الفتيات المنصرفات عن كتاب الله ؟
إن القرآن خير أنيس لصاحبه حين يتخلى عنه الناس فيبقى وحيدا في قبره, لا أنيس له إلا كتاب الله وعمله الصالح , ويلقاه يوم القيامة عند قيامه من قبره حتى يسوقه إلى جنات النعيم .
ومضة
عن بريدة رضي الله عنه قال : سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقول :
( َإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ . فَيَقُولُ لَهُ : هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ فَيَقُولُ : مَا أَعْرِفُكَ . فَيَقُولُ لَهُ : أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ ، فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا . فَيَقُولَانِ : بِمَ كُسِينَا هَذِهِ ؟ فَيُقَالُ : بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلا)أخرجه أحمد وهو في السلسلة الصحيحة.
زهدها في الدنيا
على الرغم من أن الله قد وسع عليها بالمال إلا أن الزهد كان ظاهرا عليها لأنها على يقين من زوال الدنيا ,وانتقال أهلها منها إلى دار الجزاء والحساب فكانت تجعل مالها في أحوج ما تكون إليه يوم لقاء الله تعالى ( لم يكن همها كهم الكثير الذي لا يجاوز فستانا تلبسه أو زينة تتزين بها ) بل كان همها الأعظم كيف أُتاجر مع الله في هذا المال وليس معناه ترك الدنيا بكليتها , ولكن لا لتطغي الدنيا على الآخرة, وكانت تُنكر على من يتوسعن في اللباس ومناسبات الأفراح لكمال عقلها الذي دلها على خير كثير كما تطالعه في هذه الورقات .
ولقد كان من مشاريعها وقف شقة لتكون دارا لتحفيظ القرآن الكريم , وأخرى لدعم والمسجد والدار , فسبحان من يوفق عبده للخير ويدله عليه .
-غيرتها على حرمات الله أن تُنتهك
عُرفت بغيرتها على المحارم ,فكانت –وهي مديرة مدرسة - لا تسمح لطالبتها أن يتساهلن في الحجاب , فكانت شديدة المراقبة لهن في هذا الباب,ولا تسمح للأدوات من شنط وأقلام التي فيها صور.
تقول أحد أخواتها :مما أعرفه عن أم مازن أنها لا تسمح بوجود المنكر أو أن ُيفعل أمامها .
-إحسانها للضعفاء
كان قلبها الكبير يشعر بمآسي الضعفاء والمحتاجين , فيحنوا عليهم , ويرأف بهم , لم يكن حالها - كحال من أهمتهم أنفسهم ,فكانوا جُل اهتمامهم بها ,ولا يهمهم إلا تلبية ملاذهم الخاصة - بل كانت تعلم أن للفقير حق في المال , وللمسكين فيه نصيب , فلذا كانت عطوفة رحيمة تقول إحداهن : كانت أم مازن تأتي بكثير من احتياجاتي وربما وضعتها عند بابي وذهبت من غير أن أشعر بها .
يُخفي محاسنه والله يُظهرها إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
وكانت تكفل ثلاثة أيتام خارج البلاد كفالة تامة .
بل إن من عجيب صنعها أنها خلال بقائها في المدينة كانت تبحث عن الفقراء-انظر إلى الهم – فوفقها الله لأسرة البانية كفلتهم حتى تخرج ولدها من الجامعة ,إضافة إلى كفالة امرأة موريتانية , وأخرى جزائرية وثلثه أفريقيه وغيرهم
أما جارتها فقد انخرطت بالبكاء عندما بلغها خبر وفاتها وقدمت على أهلها وجعلت تقول لهم : لقد كانت أم مازن من أرحم الخلق بي , كانت تتعاهدني بكل ما أحتاج في بيتي وأولادي.
فرحمها الله رحمة واسعة .
ومما يدل على عنايتها بهذا الباب أنه حينما طلب أسماء بعض الفقراء أعطت وصفا دقيقا لبيت كل واحد منهم مما يدل شدة الصلة بهم ومواصلتهم , يقول احد إخوانها : لقد اكتشفنا بعد وفاتها أنها تكفل عدة أسر لا نعلم عن خبرهم , قلت : يكفي أن الله يعلم .
وفاتها –رحمها الله - :
وبعد هذه السيرة العطرة التي كانت عليها –هذه المرأة الصالحة – أتظن أن الله يُضيع عبده عند الوفاة ؟ حاشا وكلا .
فإن الله سبحانه يُكرم عبده عند الوفاة وبعدها ما يجعل نفيح عبيره يظهر للعالمين ,وأختنا قد ظهرنفيح عبيرها للناس بما أكرمها من كرامات تجعل من يسير بركب الصالحين يثبت , ومن تخلف يلحق بهم , لينال شرف الدارين والذكر الحسن بعد الممات .
أما حالها عند وفاتها فيقول ابنها الذي كان معها : كانت قبل الحادث منشغلة بذكر الله تعالى وتلاوة القرآن الكريم - ومن عاش على شئ مات عليه-
وتقولها من غسلتها : حزنت لما بلغني خبر وفاتها ولكني عندما رأيتها على نعشها فرحت بمنظر وجهها وقد علته ابتسامة عريضة تنبئ عن فرحتها - بإذن الله - بما أعد الله لمثلها من الصالحات .
ومما أكرم الله به هذه المرأة أن جعل الصلاة عليها في مسجد نبيه عليه الصلاة والسلام الذي طالما صلت فيه وسألت ربها أن يختم لها بخير ,فيصلي عليها فيه وتدفن في مقبرة البقيع بجوار أمهات المؤمنين وأصحاب نبيه رضوان الله عليهم أجمعين ,لتفوز بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام "اللهم اغفر لأهل البقيع الغرقد" أخرجه مسلم .قال أهل العلم :وهو دعاء عام لكل من دُفن بالبقيع
اللهم اغفر لأمي مازن ,وارفع درجتها في عليين , وأخلفها في عقبها في الغابرين .