وقد بدا المشير طنطاوى شخصا فى غاية التواضع، ورفض الجلوس فى مقعد تم
تخصيصه له فى الجلسة، إلا أنه كان قليل الكلام فى رده على أسئلة المحكمة.
ووفقا لقرار صادر عن المحكمة تم حظر نشر مادار فى تلك الجلسة، وتستطيع أن
تقول إن هذه الجلسة لم تأت بجديد سوى أن مبارك كان عالما بتدهور الأحداث من
خلال جهات مختلفة.
وكان قد تمت إذاعة جزء من كلمة اقتطعت من سياقها لاجتماع المشير مع ضباط
الشرطة قال فيها إننا رفضنا توجيه أسلحتنا تجاه المصريين، وهو الأمر الذى
تم العدول عنه فيما بعد، وتمت إذاعة باقى كلمة المشير الذى أضاف لها
وللأمانة لم يطلب منا أن نواجه المتظاهرين بالقوة، وقد تم تداول هذه
الكلمات بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعى.
وقد سبقت شهادة المشير جلسة استماع لشهادة اللواء عمر سليمان نائب رئيس
الجمهورية السابق ورئيس المخابرات فى عهد مبارك، وكان سليمان هو الذى أفاد
فى تحقيقات النيابة العامة أن مبارك هو من كلف حسين سالم بإنشاء شركة غاز
المتوسط، وإسناد عملية تصدير الغاز لإسرائيل إليها وهو الأمر الذى أهدر على
الدولة مايزيد على 3 مليارات و200 مليون دولار، ووصف العلاقة بين مبارك
وحسين سالم بأنها علاقة صداقة قوامها عشرون عاما.
ولم تكن عملية توجيه الأسئلة لعمر سليمان أمرا يسيرا، فقد حاولنا سؤال
الرجل مرارا وتكرارا فى أشياء نريد معرفتها، إلا أنه أثبت وبمعنى الكلمة
أنه رجل مخابرات من طراز رفيع، يعرف متى يتحدث وفى أى اتجاه، وكانت مباراة
بين المحامين والمحكمة من جهة، وبين عمر سليمان من جهة أخرى، استطاع سليمان
أن يخرج منها دون خسائر ووفقا لما أراد.
وبدأت إجراءات المحاكمة تستمر فى الاستماع إلى العديد من الشهود من أول
عريف مساعد بالشرطة، مسؤول عن صرف الأسلحة، ونهاية بأحد مساعدى وزير
الداخلية الذى حضر اجتماعا بين حبيب العادلى ومساعديه قبل الأحداث.
ثم حددت المحكمة جلسات لمرافعة النيابة العامة التى بدأت مرافعة ضعيفة فى
يومها الأول وازدات قوة فى اليومين الثانى والثالث، وعرضت النيابة العامة
أفلاما مسجلة لعمليات إطلاق النار على المتظاهرين السلميين من قلب أجهزة
الشرطة، إلا أن المحامى العام الأول لنيابات استئناف القاهرة فاجأ الجميع
عندما أقر أمام المحكمة أن أجهزة المخابرات والداخلية لم تتعاون مع النيابة
العامة فى التحقيقات، وعندما سؤل عن السبب قال إن - رأيه الشخصى – أن ذلك
بناء عن تقصير متعمد.
وبعد ذلك ترافع المحامون المدعون بالحق المدنى فى يومين متتاليين، وحددت
بعدها المحكمة شهرا كاملا لمرافعة المحامين الحاضرين مع المتهمين، والذين
أشادوا جميعهم بالمحكمة ورئيسها.
ثم استمعت المحكمة إلى كلمات من المتهمين فى جلسة انتهت فى الثامنة مساء،
رفض فيها مبارك ونجلاه الحديث، واكتفى مبارك بإرسال خطاب إلى المحكمة،
أنهاه ببيت شعر يقول بلادى وإن جارت على عزيزة، وأهلى وإن ضنوا على كرام.
وارتكز دفاع مبارك بشكل كبير على أقوال اللواء عمر سليمان، وبدأ يطرح دفوعا
قانونية شابها التناقض، حيث قال إن مبارك مازال رئيسا للجمهورية، وعاد
وقال إنه مازال عسكريا باعتباره قائدا للقوات الجوية، وارتكز على دستور
1971 علما بأن هذا الدستور تم تعطيله، كما ارتكز على بعض تشريعات حديثة
لمحاكمة العسكريين، وبعد كل ذلك حددت المحكمة جلسة الثانى من يونيو للنطق
بالحكم.
لكن السؤال الذى يطرح نفسه وبقوة.. ماذا سيكون الحكم؟
- الأمانة المهنية تقضى منى ألا أجيب عن هذا السؤال لسبب بسيط جدا، وهو أنه
لا أحد على وجه الأرض – المفروض – يعلم ما يدور فى ذهن القضاة، وما استقر
فى عقيدتهم.
لكن المحاكمات الجنائية لها نتيجتان، إما الإدانة أو البراءة، وسأفرق بين
الإدانة بحكم ثقيل، والإدانة بحكم مخفف، وسأفرق أيضا بين البراءة فى قضية
الاشتراك فى القتل والإدانة فى باقى القضايا.
ابدأ بالإدانة بحكم ثقيل: وهنا لابد أن نعلم أن عقوبة الاشتراك فى القتل قد
تصل إلى الإعدام، وهو ما استبعده تماما لأى من المتهمين فى هذه القضية،
إلا أن ما يمكن أن نسميه إدانة ثقيلة يتمثل فى السجن المؤبد 25 عاما، أو
الأشغال الشاقة 15 عاما. ثم تأتى الإدانة المخففة: وهى – فى وجهة نظرى –
السجن البسيط لمدة عشر سنوات أو السجن مع إيقاف التنفيذ.
ودعونا نرصد ردود أفعال الشارع المصرى المتوقعة فى الحالتين السابقتين:
أعتقد أن أى حكم بالإدانة على مبارك، يعنى لى ولمن أمثلهم من أسر الشهداء،
هو انتصار لحق ولحقيقة مفادها أن هذا الحاكم آثر سلامته وسلامة منصبه، على
سلامة شعبه، وأدى استمراره فى التمسك بكرسى الرئاسة إلى مقتل العديد من
الأبرياء، وسمح لوزير داخليته صباح يوم جمعة الغضب أن يستمر فى إطلاق
النيران على المتظاهرين بأنواع متعددة من الأسلحة والمركبات الشرطية، وهنا
ماينفعش تقولى طيب هو انت عندك شاهد على إنه أعطى أمرا بإطلاق النار؟
الإجابة حددها القانون بأن التحريض على القتل قد يكون بمجرد السماح
باستعمال آلة القتل التى يملك الرئيس السابق وحده إيقافها بمجرد مكالمة
تليفون، وأنه علم بوقوع ضحايا صباح يوم جمعة الغضب، وعلم بتقارير رسمية أن
اعداد المتظاهرين تفوق عدد قوات الشرطة، إلا أنه استمر فى عناده حتى
الرابعة عصرا، إلى أن شعر أن الخطر بات داهما على توليه حكمه، أمر بنزول
الجيش ولكل ذلك فإن قناعاتنا بأنه شريك فى موت هؤلاء، ستؤكدها المحكمة
وتظهرها حال الحكم بأى عقوبة تمثل إدانة لمبارك، فيما عدا السجن مع إيقاف
التنفيذ، لأنه بالنسبة لأسر الشهداء والمصابين وبشكل عملى، يمثل خروج مبارك
من محبسه ليمارس حياته الطبيعية تماما وهو ما لا يرضى غريزة القصاص التى
كتبها الله كشريعة فى أرضه.
أما البراءة لمبارك فى قضايا التربح وإهدار المال العام، فاعتقد أنها لن
تشغل بال الكثيرين حال إدانته فى قضية الاشتراك فى القتل، فهنا لن يتحدث
الكثيرون عن براءته اعتمادا على إدانته فى القضية الرئيسية.
ثم نأتى إلى الطامة الكبرى من وجهة نظرى ووجهة نظر أسر الضحايا والمصابين،
وهى حصول مبارك – بعد الشر – على البراءة، وهنا قانونا يجوز للنيابة العامة
الطعن على الحكم، إلا أن هذا الطعن لن يؤثر على إطلاق سراح مبارك الذى
برأته المحكمة، وقد تكون احتمالات نقض الحكم ضعيفة.
وهنا لابد أن نتوقع ردود أفعال الشارع المصرى لا سيما التيارات السياسية
الثورية، أعتقد وأتخوف من تحرك ميدانى من قبل بعض التيارات، وهو سلوك
متوقع، وإن كنت بحكم عملى كرجل قانون أرفض الاعتراض على الأحكام القضائية،
لكن تجربة الأيام الماضية تؤكد أن الشارع المصرى يتأثر سلبا وإيجابا بأحكام
المحاكم، وهنا لا أستبعد أن يقوم النائب العام بتحريك بعض البلاغات التى
لديه ضد مبارك مرة ثانية. وهنا لابد أيضا أن نتوقع ما هو مكان الرئيس
السابق فى الحالتين حالة الإدانة وحالة البراءة؟
فى حالة الإدانة سيحق للنيابة العامة وحدها أن تقرر بمطلق حريتها إيداع
مبارك فى مستشفى سجن طرة، وهو المستشفى الذى أثبتت التقارير أنه صالح
لاستقبال مبارك المحبوس احتياطيا، إلا أن المحكمة الحالية رفضت كل
التقارير، وأبقت على مبارك فى المركز الطبى العالمى فى قرار فريد من نوعه،
لا نملك إلا احترامه، وقد تأتى ضغوط على الحكومة المصرية وعلى النائب العام
للإبقاء على مبارك فى جناحه الخاص بالمركز الطبى العالمى، ومصدر هذه
الضغوط قد يكون داخليا متمثلا فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى مازال
يحافظ على مبارك الجسد، وممكن أن تكون ضغوطا خارجية متمثلة فى الدول
العربية التى ستعرض الكثير، كى تتم رعاية مبارك خاصة فى هذه المرحلة
المتقدمة من العمر.
أما فى حالة البراءة فسيصبح حرا طليقا كما يشاء، يبقى فى مصر أو خارجها هذا
يعود له وحده، ويبقى سر هذه المحاكمة قائما للأبد، هل كانت محاكمة موجهة
أم كانت محاكمة عادلة؟ لا أحد يعلم.