الفصل العاشر لا تصلح المحبة لمن يميله حب المال
يا هذا، كم تتزيّا بزيّ العبّاد والزهّاد وحال قلبك في الغفلة ما حال، الظاهر منك نقيّ، والباطن منك متسخ بطول الآمال. لا تصلح المحبة لمن يميله حب المال، ولولا مكابدة المجاهدة لم يسمى القوم رجال.
يا ميت القلب، وعدك في الدنيا صحيح، وفي الآخرة محال، ان لم تبادر في الشباب، فبادر في الاكتهال، وما بعد شيب الرأس لهو ولما أبعد عثرة الشيخ أن تقال. ضيّعت زمان الشباب في الغفلة، وفي الكبر تبكي على التفريط في الأعمال، لو علمت ما أحصي عليك، لكنت من الباكين طول الليال.
قال رجل لذي النون وهو يعظ الناس: يا شيخ، ما الذي أصنع؟ كلما وقفت على باب من أبواب المولى صرفني عنه قاطع المحن والبلوى.
قال له: يا أخي، كن على باب مولاك كالصبي الصغير مع أمه، كلما ضربته أمه ترامى عليها، وكلما طردته، تقرّب اليها، فلا يزال كذلك حتى تضمه اليها.
يروى أن عيسى عليه السلام كان يسبح في الأرض، ويقول: دابتي رجلاي، ولباسي الشعر، وشعاري خوف الله، وريحاني عشب الأرض، وطعامي خبز الشعير، وظلي ظلمات الليل، ومسكني حيث أواني الليل، وهذا لمن يموت كثير.
ويروى عن الشبلي رضي الله عنه أنه قال: رأيت بدوي بمكة، حرسها الله تعالى، وهو يخدم الصوفية، فسألته عن سبب ذلك، فقال لي: كنت بالبادية، واذا بغلام حاف مكشوف الرأس ما معه زاد ولا ركوة ولا عصا، فقلت في نفسي: أدرك هذا الفتى، فاذا كان جائعا أطعمته، وان كان عطشان سقيته.
قال: فبادرت اليه حتى بقي بيني وبينه مقدار ذراع، واذا به بعد عني حتى غاب عن عيني، فقلت: هذا شيطان واذا به ينادي: لا بل سكران.
فناديته: يا هذا بالذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق الا ما وقفت عليّ.
فقال لي: يا فتى أتعبتني وأتعبت نفسك.
فقلت له: رأيتك وحدك، فأردت أن أخدمك.
قال لي: من يكن الله معه، كيف يكون وحده؟!.
فقلت له: ما أرى معك زادا.
فقال لي: اذا جعت فذكره زادي، وان عطشت فمشاهدته سؤلي ومرادي.
فقلت له: أنا جائع أطعمني.
فقال: أولم تؤمن بكرامات الأولياء.
فقلت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، فضرب بيده الأرض، وكانت أرض رملة، ثم قبض قبضة، وقال: كل يا مخدوع، واذا هو سويق ألذ ما يكون.
فقلت: ما ألذه!.
فقال لي: في البادية عند الأولياء من هذا كثير لو عقلت.
فقلت له اسقني، فركض برجله الأرض، فاذا هو بعين من عسل وماء، فجلست لأشرب من تلك العين، ثم رفعت رأسي، فلم أره، ولم أدر كيف غاب، ولا أين ذهب، فأنا أخدم الفقراء من ذلك اليوم الى الآن، لعلي أرى مثل ذلك الولي.
يا هذا، الى متى تسمع أخبارهم ولا تقفو آثارهم، اطلب رفقة التائبين عساك لطريقهم ترشد، اندب على بعادك يا مطرود، فمثلك من بكى وعدد، اعتذر يا مهجور، عساك بالذل تسعد، وقل بلسان التذلل والأسف والكمد:
كم ذا التلوّم لا اقلاع يصحبه ولا عزيمة هذا العجز والكسل
وكم أردّد أقوال ملفقة ما ينفع القول ان لم يصدق العمل
واعجبا! كم لي أعاتب المهجور والعتب ما ينفع، كم لي أنادي أطروش الغفلة لو كان النداء يسمع، كم لي أحدّث قلبك وفي سماعك أطمع. وأها عليك يا جامد العين قط ما تدمع، من علامة الخذلان قلب لا يخشع، قلبك ذهب في حبّ الفاني، وأنت للحرام تجمع. عليك يا غافل في جمعه الحساب، وتخلفه لمن لا ينفع، بينما أنت في بستان اللهو اذ قيل: فلان سافر وليس في رجوعه مطمع.
ويروى عن علي بن أبي صالح أنه قال: كنت أدور في جبّ اللكام أطلب الزهاد والعباد، فرأيت رجلا عليه مرقّعة، هو جالس على صخرة مطرق الى الأرض.
فقلت له: يا شيخ ما تصنع هاهنا؟.
قال لي: انظر وأرعى.
قلت له: ما أرى بين يديك الا الحجارة، فما الذي تنظر وترعى. قال: أنظر خواطر قلبي، وأرعى أوامر ربي، فبحق الذي أظهرك عليّ الا ما تركتني، فانك شغلتني عن مولاي.
فقلت له: من لازم الباب، أثبت في الخدمة، ومن أكثر من الذنوب، أكثر من الندم، ومن استغنى بالله، لم يخف العدم. ثم تركني ومضى، رضي الله تعالى عنه.