آداب العالِم
عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ،قَالَ:كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ،فَأَتَاهُ رَجُلٌ،فَقَالَ:يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ،إِنِّي أَتَيْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ فِي حَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ r،فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:أَمَا جِئْتَ لِحَاجَةٍ،أَمَا جِئْتَ لِتِجَارَةٍ،أَمَا جِئْتَ إِلاَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قَالَ:فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r،يَقُولُ:مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا،سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ،وَالْمَلاَئِكَةُ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ،وَإِنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ،وَمَنْ فِي الأَرْضِ،وَالْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ،وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ،كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ،إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ،إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا،وَأَوْرَثُوا الْعِلْمَ،فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ." ابن حبان[1]
فالعلماء ورثة الأنبياء،والأنبياء لم يورثوا من عرض الدنيا متاعا زائلا،ولا مالا فائنا،وإنما ورّثوا دين الله عز وجل القائم على العلم والحكمة،ومعرفة آيات الله في خلقه،وتزكية النفس وصلتها بخالقها،وتحليتها بمكارم الأخلاق.
وقد ورثوا عن سيدنا نوح صبره على تبليغ رسالة الله،وتحمله إيذاء قومه وإعراضهم عنه في سبيل الله،وهو قائم بالدعوة إلى الله مئات السنين دون كلل ولا ملل،ولا ضجر ولا قنوط.
وورثوا عن سيدنا إبراهيم شجاعته وصموده أمام أعداء الله،وتضحيته بالحياة واستهانته بالموت في سبيل إعلاء كلمة الله.
وورثوا عن سيدنا موسى قوته وأمانته،وعفته ونزاهته،ودعوته لإنقاذ قومه من الظلم والاستعباد،ورفقه بهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور،ومن عبادة الطواغيت إلى عبادة الله الواحد القهار.
وورثوا عن سيدنا عيسى روحانيته وقربه من الله،وذكره وصلته الدائمة بالله،وصدقه ورحمته،وسمونفسه ورفعتها ومحبتها لجميع خلق الله.
وورثوا عن خاتم النبيين سيدنا محمد rوعليهم أجمعين الخلق العظيم،والرحمة للعالمين،والصفوة من الشرع والدين القويم.
ورثوا عنه صبره وحلمه،وجهاده ونضاله،وعرض نفسه ودعوته على الناس في سبيل نشر دين الله،مقتحما الأخطار،غير مبال بتهديد ولا إيذاء ولا استنكار،غير آبه بإغراء بمنصب أو مال أو جمال،قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّه rفَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي،إنّ قَوْمَك قَدْ جَاءُونِي،فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا،لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ فَأَبْقِ عَلَيّ وَعَلَى نَفْسِك،وَلَا تُحَمّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ قَالَ فَظَنّ رَسُولُ اللّهِ rأَنّهُ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ فِيهِ بَدَاءٌ أَنّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ.قَالَ فَقَالَ رَسُول اللّه rيَا عَمّ،وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي،وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ قَالَ ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللّهِ rفَبَكَى ثُمّ قَامَ فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي،قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّه rفَقَالَ اذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي،فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاَللّهِ لَا أُسْلِمُك لِشَيْءِ أَبَدًا .".[2]
هؤلاء العلماء هم الذين عقلوا عن الله دينه،وفهموا مراده من رسالته إلى خلقه {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } (43) سورة العنكبوت.
وَهذا المَثَلُ،وَمَا مَاثَلَهُ مِنَ الأمثَالِ التِي اشْتَمَلَ عَلَيها القُرآنُ الكَريمُ،إِنَّما ضَرَبَها اللهُ تَعَالى لِلنَّاسِ لِيُقَرِّبَ مِنْ أَفهَامِهِمْ مَا بَعُدَ عَنْها،وَلِيُوضِّحَ لهُم مَا أَشْكَلَ عَلَيهِمْ أَمْرُهُ،واسْتَعصَى عَليهِمْ فَهْمُهُ،وهذه الأَمثالُ التي يَضْرِبُها اللهُ للناسِ لا يَفْهَمُها،ويُدْرِكُ مَعنَاهَا ومَغْزَاهَا،إلا الرَّاسِخُونَ في العِلمِ،المُتَدَبِّرُونَ في عَواقِبِ الأُمُورِ .[3]
فاستقرّ نور الكتاب بين ثنايا صدورهم،وانطبعت معاني الآيات في أعماق قلوبهم {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} (49) سورة العنكبوت.
هذا القُرآنُ آياتٌ بَيِّنَاتٌ،وَاضِحَاتُ الدَّلاَلَةِ عَلَى الحَقِّ،يَحْفَظُهُ العُلَمَاءُ،وَقَدْ يَسَّرَهُ اللهُ حِفْظاً وَتِلاَوَةً،وَمَا يُكَذِّبُ بِآيَاتِ اللهِ وَيرْفُضُها،وَيَبْخَسُهَا حَقَّها إلا المُعْتَدُونَ الظَّالِمُونَ،الذِينَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ وَيَحيدُونَ عَنْهُ .[4]
وبذلك ارتقوا في مقامات الصالحين،وارتفعوا إلى مصافّ المقربين {..يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة.
يرفع الله مكانة المؤمنين المخلصين منكم،ويرفع مكانة أهل العلم درجات كثيرة في الثواب ومراتب الرضوان،والله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها،وهو مجازيكم عليها. وفي الآية تنويه بمكانة العلماء وفضلهم،ورفع درجاتهم.
وشتان ما بين هذه المنزلة الرفيعة،ومنزلة الغفل الجاهلين،والمعرضين الزاهدين {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر.
هَلْ يَسْتَوِي حَالُ هَذَا المُشْرِكِ الذِي يَكْفُرُ بِنعَمِ اللهِ،وَيُشْرِكُ بِهِ الأَصْنَامَ وَالأَنْدَادَ،وَلاَ يَذْكُرُ الله إِلاَّ عِنْدَ الشَّدَّةِ والبَلاَءِ،مَعَ حَالِ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ قَائِمٌ بِأَدَاءِ الطَّاعَاتِ،وَدَائِبٌ عَلَى العِبَادَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ حِينَمَا يَكُونُ النَّاسُ نِياماً،لاَ يَرْجُو مِنْ أَدَائِهَا غَيْرَ رِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ،إِنَّهُمَا بِلاَ شَكٍّ لاَ يَسْتَوِيَانِ.ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى عَدَمَ التَّسَاوِي بَيْنَ المُؤْمِنِ المُطِيعِ والكَافِرِ الجَاحِدِ،فَقَالَ لرَسُولِهِ الكَرِيمِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤَلاَءِ:هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ مَا لَهُمْ فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ مِنْ ثَوَابٍ،وَمَا لَهُمْ فِي مَعْصِيَتِهِ مِنْ عِقَابٍ،وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ بِحُجَجِ اللهِ،وَيَتَّعِظُ بِهَا،وَيَتَدَبَّرُهَا أَهَلُ العُقُولِ والأَفْهَامِ،لاَ أَهْلَ الجَهْلِ والغَفْلَةِ .[5]
هؤلاء العلماء هم مصابيح الهدى التي تدلُّ الناس على منهج الله،وترشدهم إلى دين الله،وهم منابع الخير والسعادة والفلاح،يملؤون العقول بالعلم والحكمة،ويهذبون النفوس ويزكونها بمراقبة الله وذكره على الدوام،وينشؤون الجيل القوي بعقيدته،الكريم بأخلاقه،النافع لأمته،المخلص في بناء وطنه،فهم روح الأمة وكنزها الأكبر. فعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قالَ:قَالَ النَّبِيُّ r: إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَرْضِ،كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ،يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ،فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ،أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ. " أحمد[6].
وما دام العلمُ باقياً في الأرض،فالنَّاس في هُدى،وبقاءُ العلم بقاءُ حَمَلَتِهِ،فإذا ذهب حملتُه ومَنْ يقومُ به،وقع الناسُ في الضَّلال،كما في " الصحيحين " عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنَ النَّاسِ،وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ بِعِلْمِهِمْ،حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً،فَسُئِلُوا،فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ،فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.[7] .
وإذا كان العلماء مصادرَ السعادة لمن لاذ بهم وأخلص في صحبتهم في الدنيا،فهم تمام السعادة في الآخرة،يحشر أتباعهم بمعيتهم،ثم يشفعون بهم،قال النقاش:لرسول الله ( r) ثلاث شفاعات:العامة وشفاعة في السبق إلى الجنة وشفاعة في أهل الكبائر بن عطية:والمشهور أنهما شفاعتان فقط:العامة وشفاعة في إخراج المذنبين من النار وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء "[8]
وعَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - r: " يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِفَصْلِ عِبَادِهِ:إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِلْمِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ فِيكُمْ وَلَا أُبَالِي ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ [9]
وأي شرف أرفع،وفضل أكبر في تكريم العلماء من عطف شهادتهم في وحدانية الله على شهادة الله وشهادة ملائكته،قال تعالى {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (18) سورة آل عمران.
يُبَيِّنُ الله ُ تَعَالَى أنَّهُ الوَاحِدُ،الذِي لاَ إِلهَ إلاّ هُوَ،وَأنَّهُ قَائِمٌ عَلَى شُؤونِ خَلْقِهِ بِالعَدْلِ،وَقَدْ أقَامَ الدَّلاَئِلَ عَلَى ذَلِكَ فِي الأَنْفُسِ وَالآفَاقِ،وَفِي إنْزالِ التَّشْرِيعَاتِ النَّاطِقَةِ بِذَلِكَ.وَأخْبَرَ المَلاَئِكَةُ الرُّسُلَ بِهَذَا،وَشَهِدُوا بِهِ شَهَادَةً مُؤَيَّدَةً بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ - وَهُوَ عِنْدَ الأَنْبِياءِ أقْوَى مِنْ جَمِيعِ اليَقِينِّياتِ - وَأولُو العِلْمِ أخْبَرُوا بِذَلِكَ وَبَيَّنُوهُ،وَشَهِدُوا بِهِ شَهَادَةً مَقْرُونَةً بِالدَّلائِلِ وَالحُجَجِ لأنَّ العَالِمَ بِالشَّيءِ لاَ تُعْوِزُهُ الحُجَّةُ عَلَيهِ .وَقَوَامَةُ اللهِ فِي تَدْبِيرِ هَذَا الكَوْنِ،وَأمُورِ الخَلْقِ،تَتَّصِفُ دَائِمًا بِصِفَةِ العَدْلِ ( قَائِماً بِالقِيْطِ ).وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى سُنَنَ الخَلْقِ قَائِمَةً عَلَى أسَاسِ العَدْلِ.ثُمَّ أكَّدَ تَعَالَى كَوْنَهُ مُنْفَرِداً بِالألُوهِيَّةِ،وَقَائِماً بِالعَدْلِ ( لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) .[10]
وعَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ -r- رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِى جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ ». رواه الترمذي[11].
هذا وللعلماء الحقيقيين صفات بها يعرفون،وأخلاق عليها مجبولون،وآداب بها متصفون،نذكر منها ما يلي:
1- لزوم العلم ومحبته والشغف به،وبذل الوقت للاستزادة منه على الدوام.قال الله تعالى: {.. وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (114) سورة طـه.
هذا توجيه للنبي rللاستزادة من العلم،فما دُمْتَ أنت يا رب الحافظ فزِدْني منه،ذلك لأن رسول الله سيحتاج إلى علم تقوم عليه حركة الحياة من لَدُنْه إلى أن تقوم الساعة،عِلْمٌ يشمل الأزمنة والأمكنة،فلا بُدَّ له أنْ يُعَدَّ الإعدادَ اللازم لهذه المهمة.[12]
2- العمل بالعلم،لأن العالم الحق لا يخالف فعله قوله،ومن كان قدوة للناس بفعله وسلوكه قبل كلامه وتوجيهه،ومن دعاهم إلى الله بسيرته وأخلاقه،قبل دروسه وخطبه،ومن علّم الناس بحاله قبل قاله. عَنْ مَيْمُونٍ،أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ،قَالَ:وَيْلٌ لِلَّذِي لاَ يَعْلَمُ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلَّذِي يَعْلَمُ،ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ سِتَّ مِرَارٍ. " ابن أبي شيبة[13].
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ:قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ:" وَيْلٌ للَّذِي لَا يَعْلَمُ مَرَّةً،وَوَيْلٌ للَّذِي يَعْلَمُ وَلَا يَعْمَلُ سَبْعَ مَرَّاتٍ "[14]
وعَنْ عُمَيْرِ بْنِ تَمِيمٍ النِّمْرَانِيِّ أَبِي وَبْرَةَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ ؟ فَقَالَ:" لَا تَسْأَلْ فَإِنَّكَ إِنْ تَأْتِ الشَّيْءَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُهُ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَأْتِيَهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُهُ "[15]
وعَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ،قَالَ:سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ،عَنْ شَيْءٍ بِالْحِيَلِ،فَقَالَ:" لَا تَسْأَلْ،فَإِنَّكَ إِنْ تَأْتِ الشَّيْءَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُهُ أَهْوَنُ عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَهُ وَأَنْتَ تَعْلَمُهُ "[16]
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،قَالَ:" إِنَّكَ لَنْ تَكُونَ عَالِمًا حَتَّى تَكُونَ مُتَعَلِّمًا،وَلَنْ تَكُونَ عَالِمًا حَتَّى تَكُونَ بِمَا عَلِمْتَ عَامِلًا "[17]
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ:لَيْسَ الْعَالِمُ الَّذِي يَعْرِفُ الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ،إِنَّمَا الْعَالِمُ الَّذِي يَعْرِفُ الْخَيْرَ،فَيَتَّبِعُهُ وَيَعْرِفُ الشَّرَّ فَيَجْتَنِبُهُ "[18].
وقال أحد الشعراء:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ مِنَ السَّقَامِ لِذِي الضَّنى ... كَيْمَا يَصِحَّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
وَأَرَاكَ تُلْقِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا ... نُصْحًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ
ابدأ بنفسك فانْهَهَا عن غيِّها فإذا انتهتْ فأنتَ حكيمُ
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قِيلَ لَهُ أَلاَ تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ فَقَالَ أَتُرَوْنَ أَنِّى لاَ أُكَلِّمُهُ إِلاَّ أُسْمِعُكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ وَلاَ أَقُولُ لأَحَدٍ يَكُونُ عَلَىَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ. بَعْدَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -r- يَقُولُ « يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِى النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلاَنُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلاَ آتِيهِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ ».رواه مسلم[19].
قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} الصف.
وقال تعالى على لسان نبيه شعيب: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (88) سورة هود.
قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ:هَلْ تَرَوْنَ لَوْ أَنَّنِي كُنْتُ عَلَى بَيِّنّةٍ مِنْ رَبِّي وَهُدًى،وَأَنَّهُ آتَانِي النُّبُوَّةَ،وَرَزَقَنِي رِزْقاً حَلالاً طَيِّباً حَسَناً،ثُمَّ عَصَيْتُهُ فِيمَا أَرْسَلَنِي بِهِ إِلَيكُمْ،وَتَرَكْتُ دَعْوَتَكُمْ إِلَى الحَقِّ،وَعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ،فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ حِينَئِذٍ؟ وَأَنَا لاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ شَيءٍ وَأُخَالِفُكُمْ فِي السِّرِّ إِليهِ فَأَفْعَلُهُ،وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقولَ لَكُمْ إِنَّ اللهَ أَكْرَمَنِي بِالرِّزْقِ الحَلالِ الحَسَنِ،دُونَ أَنْ أَحْتَاجَ إلى التَّطْفِيفِ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ،وَدُونَ أَنْ أَبْخَسَ فِيهما .وَأَنَا لاَ أُرِيدُ مِنْ أَمْري إِيّاكُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ،وَبِالإقْلاعِ عَنِ المَفَاسِدِ،إلاَّ الإِصْلاَحَ بِقَدْرِ جَهْدِي وَطَاقَتِي.وَلا أَسْأَلُ غَيْرَ اللهِ التَّوْفِيقَ فِي إِصَابَةِ الحَقِّ وَإِنَّنِي تَوَكَّلْتُ عَلَيهِ،وَإِلَيهِ أَخْلَصْتُ وَأَنبْتُ فِي عِبَادَتِي وَطَاعَتِي .[20]
وقال عز وجل:{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) } البقرة.
يَنْعِى اللهُ تَعَالَى عَلَى اليَهُودِ - وَهُمْ أَهْلُ الكِتَابِ - أَنْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِالخَيْرِ وَالبِرِّ وَطَاعَةِ اللهِ،فِي حَالِ أَنَّهُمْ يَنْسَوْنَ وَعْظَ أَنْفُسِهِمْ،وَحَمْلَهَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ،فَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِمَا يَأْمُرُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ،مَعَ أَنَّهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ المُنْزَلَ إِلَيْهِمْ،وَيَعْلَمُونَ مَا فِيهِ مِنْ عَقَابِ يَحِلُّ بِمَنْ يُقَصِّرُ فِي القِيَامِ بمَا أَمَرَ اللهُ.وَلكِنَّ الأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ مِنْهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ مِنَ الحَقِّ إِلاَّ مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ،وَلا يَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ إِذَا عَارَضَ شَهَوَاتِهِمْ .[21]
وعَنْ عَلِىٍّ قَالَ:يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ،فَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَوَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ،وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ،يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُمْ وَتُخَالِفُ سَرِيرَتُهُمْ عَلاَنِيَتَهُمْ يَجْلِسُونَ حِلَقاً فَيُبَاهِى بَعْضُهُمْ بَعْضاً حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَغْضَبُ عَلَى جَلِيسِهِ أَنْ يَجْلِسَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ،أُولَئِكَ لاَ تَصْعَدُ أَعْمَالُهُمْ فِى مَجَالِسِهِمْ تِلْكَ إِلَى اللَّهِ."[22]
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ:" لَا تَكُونُ تَقِيًّا حَتَّى تَكُونَ عَالِمًا وَلَا تَكُونُ بِالْعِلْمِ جَمِيلًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلًا "
قَالَ أَبُو عُمَرَ:مِنْ قَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَخَذَ الْقَائِلُ قَوْلَهُ:" كَيْفَ هُوَ مُتَّقٍ وَلَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي "
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ:" الْعَالِمُ الَّذِي وَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ وَمَنْ خَالَفَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ فَذَلِكَ رَاوِيَةُ أَحَادِيثَ سَمِعَ شَيْئًا فَقَالَهُ " وَيُرْوَى أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يُنْشِدُ مُتَمَثِّلًا وَهِيَ لِسَابِقٍ الْبَرْبَرِيِّ فِي شِعْرٍ لَهُ مِطُوَّلٍ :
إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ كَانَ حُجَّةً عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ جَاهِلُهْ
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أُوتِيتَ عِلْمًا فَإِنَّمَا يُصَدِّقُ قَوْلُ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاعِلُهْ
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا,وَاللَّهُ أَعْلَمُ،وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَا مَنْ رَوَى أَدَبًا فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَيَكُفَّ عَنْ زَيْغِ الْهَوَى بِأَدِيبِ
حَتَّى يَكُونَ بِمَا تَعَلَّمَ عَامِلًا مِنْ صَالِحٍ فَيَكُونُ غَيْرَ مَعِيبِ
وَلَقَلَّمَا تُجْدِي إِصَابَةُ عَالِمٍ أَعْمَالُهُ أَعْمَالُ غَيْرِ مُصِيبِ
وَقَالَ مَنْصُورٌ رَحِمَهُ اللَّهُ :
لَيْسَ الْأَدِيبُ أَخَا الرِّوَا يَةِ لِلنَّوَادِرِ وَالْغَرِيبِ
وَلِشِعْرِ شَيْخِ الْمُحَدِّثِينَ أَبِي نَوَّاسٍ أَوْ حَبِيبٍ
بَلْ ذُو التَّفَضُّلِ وَالْمُرُو ءَةِ وَالْعَفَافِ هُوَ الْأَدِيبُ[23]
عَنْ أَبِي بَرْزَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - r-:" مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ مَثَلُ الْفَتِيلَةِ،تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ[24].
خشية الله تعالىكلما ازداد علما،ومخافته كلما ازداد معرفة بعظمته وقدرته،قال أحدهم:
على قدر علم المرء يعظم خوفه ………فما عالم إلا من الله خائف
فآمن مكر الله بالله جاهل ………وخائف مكر الله بالله عارف
قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) } [فاطر:27،28] .
يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى العِبَادَ إِلى قُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ عَلَى خَلقِ الأَشياءِ المُخْتَلِفَةِ،المُتَنَوِّعَةِ المُظَاهِرِ وَالأِشْكالِ،مِنَ الشَّيءِ الوَاحِدِ،فَيَقُولُ تَعَالى إِنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَطَراً فَأَرْوَى بِهِ الأَرْضَ،فَأَخْرَجَتْ ثِمَاراً مُخْتَلِفَةَ الألوانِ والطُّعُومِ والرُّوَائِحِ،وَإِنَّه خَلَقَ الجِبَالَ كَذَلِكَ مُخْتَلِفَةَ الأَلْوَانِ،فَمِنْهَا الأَبْيَضُ وَمِنْهَا الأَحْمَرُ وَمِنْهَا الأَسْوَدُ الغِرْبِيْبُ .وَجَعَلَ اللهُ تَعَالى النَّاسَ والدَّوابَّ والأَنْعَامَ مُخْتَلِفِي الأَلوَانِ والأَشْكَالِ في الحِنْسِ الوَاحِدِ،فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ،وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لاَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ حَقَّ المَعْرِفَةِ،والذِي يَعْرِفُهُ منْهُمْ هُم العَالِمُونَ بأَسْرَارِ الكَوْنِ،العَارِفُونَ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالى،فَهَؤُلاءِ هُمُ الذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ،وَيتَّقُونَ عِقَابَهُ،فَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ.واللهُ عَزيزٌ فِي انتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ،غَفُورٌ لِذُنُوبِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ .[25]
4- الترفع عن سفاسف الدنيا،ولغوها ولهوها ولعبها،وبهرجها وزخارفها وشهواتها الرخيصة. قال ذو النون،وصف لي رجل بالمغرب وذكر لي من حكمته وكلامه ما حملني على لقائه،فرحلت إليه إلى المغرب فأقمت على بابه أربعين صباحاً على أن يخرج من منزله إلى المسجد ويقعد،فكان يخرج وقت كل صلاة يصلي،ويرجع كالواله لا يكلم أحداً فقلت له يوماً: يا هذا إني مقيم ها هنا منذ أربعين صباحاً لا أراك تكلمني. فقال لي: يا هذا لساني سبع إن أطلقته أكلني. فقلت له: عظني رحمك الله بموعظة أحفظها عنك. قال: وتفعل؟ قلت: نعم إن شاء الله،قال: لا تحب الدنيا وعد الفقر والغنى والبلاء من الله نعمة،والمنع من الله عطاء،والوحدة مع الله أنساً،والذل عزاً والطاعة حرفة والتوكل معاشاً والله تعالى لكل شديدة عدة.
ثم مكث بعد ذلك شهراً لا يكلمني،فقلت له: رحمك الله إني أريد الرجوع إلى بلدي فإن رأيت أن تزيدني في الموعظة فقال: اعلم أن الزاهد في الدنيا قوته ما وجد ومسكنه حيث أدرك ولباسه ما ستر الخلوة مجلسه،والقرآن حديثه،والله الجبار العزيز أنيسه والذكر رفيقه،والصمت جنته،والخوف سجيته،والشوق مطيته،والنصيحة نهمته والصبر وساده،والصديقون إخوانه والحكمة كلامه،والعقل دليله،والجوع أدمه والبكاء دأبه،والله عز وجل عدته. قلت بما تتبين الزيادة من النقصان؟ قال: عند المحاسبة للنفوس." [26]".
قال تعالى:{ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) } طه.
يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَه rفَيَقُولُ لَهُ:اصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِ هَؤَلاَء ِالمُكَذِّبِينَ،وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بَعْدَ صَلاَةِ الفِجْرِ،وَبَعْدَ صَلاَةِ العَصْرِ ( قَبْلَ غُرُوبِهَا )،وَفِي فَتَرَاتِ اللَّيْلِ،فَالتَّسْبِيحُ اتِّصَالٌ بِاللهِ تَعَالَى،وَالنَّفْسُ الَّتِي تَتَّصِلُ بِاللهِ تَطْمَئِنُّ وَتَرْضَى.فَالرِّضَا ثَمَرَةُ التَّسْبِيحِ وَالعِبَادَةِ،وَهُوَ وَحْدَهُ جَزَاءٌ حَاضِرٌ يَنْبُعُ مِنْ دَاخِلِ النَّفْسِ .[27]
قَالَتِ الْحُكَمَاءُ:أَصْلُ الْعِلْمِ الرَّغْبَةُ وَثَمَرَتُهُ السَّعَادَةُ،وَأَصْلُ الزُّهْدِ الرَّهْبَةُ وَثَمَرَتُهُ الْعِبَادَةُ فَإِذَا اقْتَرَنَ الزُّهْدُ وَالْعِلْمُ فَقَدْ تَمَّتِ السَّعَادَةُ وَعَمَّتِ الْفَضِيلَةُ،وَإِنْ افْتَرَقَا فَيَا وَيْحَ مُفْتَرَقَيْنِ مَا أَضَرَّ افْتِرَاقَهُمَا،وَأَقْبَحَ انْفِرَادَهُمَا[28].
5- التواضع لعباد الله،والشفقة على المتعلمين،والرفق بهم،والتأني في تعليمهم،ومعاملتهم كأبنائه المحتاجين،واحتمال إعراضهم وجفائهم وجهالتهم،والحرص على إنقاذهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والفقه في الدين. والعمل على إصلاحهم بإنتقاء العلم الذي يعالج أمراضهم،ويصلح أحوالهم وتقديم الأولى في تعليمهم والتدرج في تأديبهم،وتفهم حاجاتهم وتقدير ظروفهم،والرد على أسئلتهم،والبشاشة في وجوههم،وتأليف قلوبهم،وبذل الوقت وإنفاق المال في سبيل إرشادهم،وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ r, قَالَ:" اطْلُبُوا الْعِلْمَ،وَاطْلُبُوا مَعَ الْعِلْمَ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ،لِينُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ،وَلِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ،وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ الْعُلَمَاءِ،فَيَغْلِبُ عِلْمَكُمْ جَهْلُكُمْ "[29]
قال تعالى:{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216)} الشعراء.
بعد أن أمره بالشدة على أهله وقرابته يأمره باللين،وخَفْض الجناح لباقي المؤمنين به،وخَفْض الجناح كناية عن اللُّطْف واللين في المعاملة،وقَد أُخِذ هذا المعنى من الطائر حين يحنو على فراخه،ويضمهم بجناحه.
وخَفْض الجناح دليل الحنان،لا الذلّة والانكسار،وفي المقابل نقول (فلان فارد أجنحته) إذا تكبَّر وتجبَّر،وتقول (فلان مجنح لي) إذا عصا أوامرك.
وفي موضع أخر:{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ }[الحجر: 88].
وقال في حَقِّ الوالدين:{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }[الإسراء: 24] فلا نقول: كُنْ ذليلاً لهم،إنما كُنْ رحيماً بهم،حَنُوناً عليهم،ففي هذا عِزّك ونجاتك.
فإنْ عصاك الأقارب فلا تتردد في أنْ تعلنها { إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [الشعراء: 216] وعندها لا تراعي فيهم حَقَّ الرحم،ولا حَقّ القُرْبى،لأنه لا حَقَّ لهم؛ لذلك قال { فَقُلْ } [الشعراء: 216] ولم يقل تبرأ منهم؛ لأنه قد يتبرأ منهم فيما بينه وبينهم.
لكن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يريد أنْ يعلنها رسول الله على الملأ ليعلمها الجميع،وربنا يُعلِّمنا هنا درساً حتى لا نحابي أحداً،أو نجامله لقرابته،أو لمكانته حتى تستقيم أمور الحياة.
والذي يُفسِد حياتنا وينشر فيها الفوضى واللا مبالاة أنْ ننافق ونجامل الرؤساء والمسئولين،ونُغطِّي على تجاوزاتهم،ونأخذهم بالهوادة والرحمة،وهذا كله يهدم معنويات المجتمع،ويدعو للفوضى والتهاون.
لذلك يعلمنا الإسلام أنْ نعلنها صراحة { فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [الشعراء: 216] وليأخذ القانون مجراه،وليتساوى أمامه الجميع،ولو عرف المخالف أنه سيكون عبرة لغيره لارتدع.
لذلك يُقال عن عمر رضي الله عنه أنه حكم الدنيا كلها،والحقيقة أنه حكم نفسه أولاً،فحكمتْ له الدنيا،وكذلك مَنْ أراد أنْ يحكم الدنيا في كل زمان ومكان عليه أنْ يحكم نفسه،فلا يجرؤ أحد من أتباعه أن يخالفه،وساعة أن يراه الناس قدوة ينصاعون له بالسمع والطاعة.[30]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ،أُعَلِّمُكُمْ،إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ،وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا،وَأَمَرَ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ،وَنَهَى عَنِ الرَّوْثِ،وَالرِّمَّةِ،وَنَهَى أنْ يَسْتَطِيبَ الرَّجلُ بِيَمِينِهِ." ابن ماجة[31].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: إِنِّي أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ،أُعَلِّمُكُمْ إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ،وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا،وَلاَ يَسْتَنْجِ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ،وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ،وَيَنْهَى عَنِ الرَّوْثَةِ وَالرِّمَّةِ." ابن حبان[32]
وعَنْ أَبِى هَارُونَ الْعَبْدِىِّ قَالَ:كُنَّا نَأْتِى أَبَا سَعِيدٍ فَيَقُولُ:مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ rإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ rقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَكُمْ تَبَعٌ وَإِنَّ رِجَالاً يَأْتُونَكُمْ مِنْ أَقْطَارِ الأَرَضِينَ يَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا. رواه الترمذي[33].
6- الإخلاص في تعليم العلم وبذله للناس،وإرادة وجه الله تعالى به،وطلبا لرضاء الله عز وجل وقربه إليه،فلا يطلب أجرا ولا جزاء ولا ثناء ولا شكورا.
قال الله تعالى:{ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود:29].
وَأَنَا لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَى نُصْحِي لَكُمْ،وَدَعْوَتِي إِيَّاكُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ،مَالاً آخُذُهُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى ذَلِكَ،وَإِنَّمَا أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ وَحْدَهُ،وَأَنَا لاَ أَسْتَطِيعُ طَرْدَ المُؤْمِنِينَ كَمَا طَلَبْتُمْ مِنِّي،اسْتِعْلاءَ مِنْكُمْ عَلَيْهِمْ،وَتَحَاشِياً مِنَ الجُلُوسِ مَعَهُمْ،لأَنَّهُمْ سَيُلاَقُونَ رَبَّهُمْ،وَسَيَسْأَلُنِي اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ،وَإِنِّي لأَرَاكُمْ قَوْماً تَتَجَاوَزُونَ فِي طَلَبِكُمُ الحَقَّ وَالصَّوابَ،إِلَى الجَهْلِ وَالبَاطِلِ،وَلا تًدْرِكُونَ أَنَّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَتَفَاضَلَ فِيهِ الخَلْقُ عِنْدَ اللهِ هُوَ الإِيمَانُ،وَالعَمَلُ الصَّالِحُ،لاَ المَالُ،وَلاَ الحَسَبُ وَلا الجَاهُ .[34]
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:قِيلَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ ؟ قَالَ:مَنْ ذَكَّرَكُمُ اللَّهَ رُؤْيَتُهُ،وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ،وَذَكَّرَكُمْ بِالآخِرَةِ عَمَلُهُ" رواه أبو يعلى[35].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ،لاَ يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لَيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا،لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ." ابن حبان[36].
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: لاَ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ،وَلاَ تُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ،وَلاَ تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ،فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارَ النَّارَ." ابن حبان[37]
7- التثبت من العلم والتوسع في دقائقه،وإصابة لبه،وأن يبلغ فيه مداه،فلا يكتفي ببعضه ولا بقشوره،ولا يعلم بعض مسائله ويجهل ما هو من مستلزماتها ومتمماتها.
8- الالتزام بالحلم والوقار،والأناة وسعة الصدر،إذا لا يزين العلم إلا الحلم ومكارم الأخلاق،وتجنب الرعونة والحمق والطيش والخفة والغضب والتهور وسرعة الانفعال..
9- الصبر على جفاء الجاهلين،وإيذاء الحاسدين،وافتراء الكاذبين وعداوة الجاحدين.
قال الله تعالى:{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } الأحقاف 35.
فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلى مَا تُلاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَومِكَ لَكَ،كَمَا صَبَرَ أَصْحَابُ القُوَّةِ والثِّبَاتِ،مِنَ الرُّسُلِ الذِينَ سَبَقُوكَ،عَلَى تَكْذِيبِ أَقْوامِهِمْ لَهُمْ حِينَما أَبْلَغُوهُمْ دَعْوَةَ اللهِ إِلى الإِيمَانِ بِهِ.وَلا تَسْتَعْجِلْ بِسُؤَالِ رَبِّكَ أَنْ يُنزِلَ بِهِم العَذَابَ،فَهُوَ واقعٌ بِهِمْ لا مَحَالَةَ.وَأِنَّهُمْ حِينَما يَنْزِلُ بِهِم العَذَابُ يَومَ القِيَامَةََ يَرَوْنَ أَنَّ مُدَّةَ لَبِثِهِمْ في الدُّنيا ( أَوْ في قُبُورِهِمْ ) كَانَتْ قَصِيرةً،حَتَّى لَيَحْسَبُوها سَاعَةً مِنْ نَهارٍ .وَهذا الذِي وُعِظْتُم بِهِ لكَافٍ في المَوعِظَةِ،وَلاَ يَهلِكُ بالعَذابِ إِلا الكَافِرُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَأَمْرِهِ،لأَنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ إِلا مَنْ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ .[38]
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى النَّبِىِّ - r- يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ،وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ،وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِى فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ».متفق عليه[39].
10- بذل العلم لأهله،وتبيانه وإيضاحه،وتجنب كتمان شيء منه ضنا به أو ترفعا على من يطلبه.
قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} آل عمران.
أخَذَ اللهُ تَعَالَى العَهْدَ وَالمِيثَاقَ عَلَى أهْلِ الكِتَابِ عَلَى ألْسِنَةِ أنْبِيَائِهِمْ،بِأنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ مَا جَاءَ فِي كُتُبِهِمْ غَيرَ كَاتِمِينَ مِنْهُ شَيْئاً،وَبِأنْ يُوَضِّحُوا مَعَانِيَهُ كَمَا هِيَ دُونَ تَأوِيلٍ أَوْ تَحْرِيفٍ،وَبِأنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أن كُتُبَهُمْ أَشَارَتْ إلى بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ r،لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى أهْبَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ حَتَّى إذَا بَعَثَهُ اللهُ رَسُولاَ لِلْخَلْقِ تَابَعُوهُ،وَلَكِنَّ أَهْلَ الكِتَابِ كَتَمُوا ذَلِكَ،واعْتَاضُوا بِحُطَامِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ ( ثَمناً قَلِيلاً ) عَنِ الأَجْرِ الذِي وَعَدَهُم اللهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .وَقَدْ وَبَّخَهُم اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ العَمَلِ،تَوْبيخاً شَدِيداً فِي أكْثَر مِنْ مَوْضِعٍ مِنَ القُرآنِ،وَقَالَ لَهُمْ:بِئْسَتِ البَيْعَةُ بَيْعَتُهُمْ.وَوَاجِبُ أهْلِ الكِتَابِ فِي شَرْحِ مَعَانِي كُتُبِ اللهِ لِلنَّاسِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهَا،يَنْطَبِقُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَيْضاً[40]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ r،قَالَ:مَنْ كَتَمَ عِلْمًا تَلَجَّمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. " ابن حبان[41].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ رَسُولَ اللهِ r،قَالَ:مَنْ كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ." ابن حبان[42]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:أَيُّمَا رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ."[43]
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - r: " عُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلَانِ:رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا،فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ،وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا وَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا،فَذَلِكَ تَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيتَانُ الْبَحْرِ وَدَوَابُّ الْبَرِّ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ،وَيَقْدَمُ عَلَى اللَّهِ سَيِّدًا شَرِيفًا حَتَّى يُرَافِقَ الْمُرْسَلِينَ،وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا،فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ،وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا،وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَنًا،فَذَاكَ يُلْجَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ،وَيُنَادِي مُنَادٍ:هَذَا الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ،وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا،وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَنًا،وَكَذَلِكَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنَ الْحِسَابِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ[44]
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله r:" مَا آتى اللّه عَالماً عِلماً إلاّ أخَذَ عَلَيه المِثاقَ أنْ لا يَكتُمَهُ ه" رواه أبو نعيم[45].
11- استماع الحجة والقبول بها،والانصياع للحق وإن كان من الخصم،وتجنب الإصرار على الخطأ. قال الشافعي: وَدِدْت أَنَّ النَّاسَ انْتَفَعُوا بِهَذَا الْعِلْمِ وَلَا يُنْسَبُ إلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ،وَقَالَ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:مَا نَاظَرْت أَحَدًا قَطُّ فَأَحْبَبْت أَنْ يُخْطِئَ،وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا كَلَّمْت أَحَدًا قَطُّ إلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ وَتَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ".[46]
12- الجرأة في الحق،وإظهار عزة العلم،وأن لا يخشى في الله لومة لائم أو غضبة حاقد وإن كان مرا وذلك بالحكمة والعقل والموعظة الحسنة.قال تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام:83].
وَتِلْكَ هِيَ حُجَّةُ اللهِ الدَّامِغَةُ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ،أَرْشَدَ إِلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ،لِيُوجِّهُهَا إلَى قَوْمِهِ،وَهُمْ يُجَادِلُونَهُ فِي رَبِّهِ،وَاللهُ يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ،دَرَجَاتٍ فِي الدِّينِ وَالفَهْمِ وَالحُجَّةِ،وَإنَّ رَبَّكَ اللهَ الذِي رَبَّاكَ وَعَلَّمَكَ وَهَدَاكَ يَا مُحَمَّدُ،وَجَعَلَكَ خَاتَمَ الرُّسُلِ،حَكِيمٌ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ،عَلِيمٌ بِمَنْ يَهْتَدِي بِمَا أَنْزَلَ اللهُ،وَبِمَنْ يَضِلُّ،وَبِمَنْ قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِ .[47]
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ،وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ،وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ." ابن حبان[48]
وعَنْ عَائِشَةَ:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r،قَالَ:" مَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ،وَمَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَا النَّاسِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ " ابن حبان[49].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r:مَنْ أَسْخَطَ اللَّهَ فِي رِضَا النَّاسِ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ،وأَسْخَطَ عَلَيْهِ مَنْ أرضاهُ فِي سَخَطِهِ،وَمَنْ أَرْضَى اللَّهَ فِي سَخَطِ النَّاسِ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ مَنْ أَسْخَطَهُ فِي رِضَاهُ حَتَّى يُزَيِّنَهُ وَيُزَيِّنَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ فِي عَيْنِهِ." الطبراني[50]
13- إعطاء المتعلم على قدر فهمه،فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره،ثم يتدرج به من رتبة إلى رتبة. َقَالَ عَلِىٌّ:حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ،أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " رواه البخاري[51].
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً." رواه مسلم[52].
14- بذل العلم لمن يقدِّرونه وينتفعون منه،وإمساكه عمن غيرهم.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ،وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ." رواه ابن ماجه[53].
15- إصلاح ظاهره بالاستقامة على الشريعة المحمدية،وباطنه على التقوى وتزكية النفس ومراقبة الله تعالى،لأن العلم ليس لقلقة باللسان،وكلمات جوفاء لا تتجاوز الآذان،وإنما هو نور القلب بخرج من روح متصلة بالله مستقر في القلوب والأرواح لينقلب إلى عمل وسلوك.قال الله تعالى:{ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) } [السجدة:23 - 25] .
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَه rأَنَّهُ آتَى مُوسَى التَّوْرَاةَ ( الكِتَابَ )،لِتَكُونَ هُدىً وعِظَةً لِبني إِسْرائيلَ،كَمَا آتَى عَبْدَهُ مُحَمَّداً القُرآنَ،وأَمَرهُ بأَلاَّ يَكُونَ في شَكٍّ وَرِيبَةٍ مِنْ صِحَّةِ مَا آتاهُ اللهُ مِنَ الكِتَابِ،فَمُحَمَّدٌ لَيْسَ بِدْعاً في الرُّسُلِ،فَقَدْ آتى الله غَيْرَهُ مِنَ الأنبياءِ كُتُباً.وَجَعَلَ اللهُ مِنْ بَني إِسْرَائيلَ أَئِمَّةً فِي الدُّنيا،يَهْدُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلى الخَيْرِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ،لأَنَّهُم صَبَروا عَلى طَاعَتِهِ،وَعَزَفَتْ نُفُوسُهُمْ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنيا وَشَهَواتِها،وَكَانُوا مُؤْمِنينَ بآياتِ اللهِ وَحُجَجِهِ،وَبِمَا اسْتَبَانَ لَهُمْ مِنَ الحَقِّ[54]
وعَنِ الْحَسَنِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: الْعِلْمُ عِلْمَانِ:عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ،وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَتِلْكَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ."[55]
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ:الْعِلْمُ عِلْمَانِ:فَعِلْمٌ فِى الْقَلْبِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ،وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ.[56]
وقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: " الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ بِاللِّسَانِ،وَعِلْمٌ بِالْقَلْبِ،فَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْقَلْبِ: فَذَاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ،وَأَمَّا الْعِلْمُ بِاللِّسَانِ: فَذَلكَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ "[57]
16-تجنب الفتيا بغير علم أو تثبت أو تأكد من المسألة،وإحالة الباب الذي لا يعرفه إلى من هو أعلم منه،وعدم الحرج من قول لا أدري أو الأنفة من ذلك.
قال تعالى:{ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)} الاسراء.
إنّ علم الإنسان سيظل قاصراً عن إدراك هذه الحقيقة،وسيظل بينهما مسافات طويلة؛ لذلك قال تعالى بعدها: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85]
وهل عرف العقل البشري كل شيء حتى يبحث في أسرار الروح؟!
والحق سبحانه وتعالى حينما يعطينا فكرة عن الأشياء لا يعطينا بحقائق ذاتها وتكوينها؛ لأن أذهاننا قد لا تتسع لفهمها،وإنما يعطينا بالفائدة منها. فحين حدثنا عن الأهِلّة قال:{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.. }[البقرة: 189]
وهذه هي الفائدة التي تعود علينا والتي تهمنا من الأَهِلّة،أما حركتها ومنازلها والمراحل التي تمر بها الأَهِلّة فأمور لا يضر الجهل بها؛ ذلك لأن الاستفادة بالشيء ليستْ فرعاً لفهم حقيقته،فالرجل الأُميّ في ريفنا يقتني الآن التلفاز وربما الفيديو،ويستطيع استعمالهما وتحويل قنواتهما وضبطهما،ومع ذلك فهو لا يعرف كيف تعمل هذه الأجهزة؟ وكيف تستقبل؟
إذن: الاستفادة بالشيء لا تحتاج معرفة كل شيء عنها،فيكفيك ـ