آداب الكلام
شكر نعمة الكلام:
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (22) سورة الروم
ومِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ،أَنَّهُ تَعَالى خَلقَ السَّماوَاتِ في ارْتِفَاعِهَا واتِّسَاعِها،وَخَلَقَ فِيها النُّجُومَ والكَواكِبَ،وَخَلقَ الأَرضَ وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ وَمياهٍ ومخلُوقَاتٍ وَنَبَاتَاتٍ وجِبَالٍ،وجَعَلَ أَلسِنَةَ البَشَرِ مُخْتَلِفَةً مُتَمَايِزَةً،كَما جَعَلَ ألوانَ البَشَرِ مُخْتِلفةً،وإِن تَشَابِهُوا جَمِيعاً في الخُطُوطِ الكُبرى مِنْ مَلاَمِحِهِم،وَفي ذَلك آياتٌ تَدُلُّ عَلى عَظَمَةِ الخَالِقِ لأُولِي العِلْمِ الذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللهُ .[1]
أحسن الكلام:
قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (23) سورة الزمر .
اللهُ تَعَالَى أَنْزَلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ قُرْآناً يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً ( مَثَانِيَ )،وَيَتَرَدَّدُ فِيهِ القَوْلُ،مَعَ المَوَاعِظِ والأَحْكَامِ لِيَفْهَمَ النَّاسُ مَا أَرَادَ رَبُّهُمْ تَعَالَى،وَإِذَا تُلِيَتْ مَعَهُ آيَاتُ العَذَابِ والعِقَابِ اقْشَعَرَّتْ لَهَا جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ،وَوَجِلَتْ لَهَا قُلُوبُهُمْ،وَإِذَا تُلِيَتْ آيَاتُ الرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ والثَّوَابِ تَلِينُ قُلُوبُهُمْ،وَتَطَمئِنُّ نُفُوسُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ.وَمَنْ كَانَتْ هَذَهِ صِفَتُهُ فَقَدْ هَدَاهُ اللهُ،وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ،وَمَنْ أَضَلَّهُ اللهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ سَيُعْرِضُ عَنِ الحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَهْدِيهِ مِنْ دُونِ اللهِ .[2]
وقال الله تعالى: { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر:17،18]
والذينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الأَصْنَامِ،واتِّبَاعَ الشَّيَاطِينِ،وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ مُعْرِضِينَ عَمّا سِوَاهُ،يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بالثَّوَابِ العَظِيمِ حِينَ المَوْتِ،وَحِينَ يَلْقَونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ،وَهَؤُلاَءِ الذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ،وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ،وَسَمِعُوا القَوْلَ فَاتَّبَعُوا أَحْسَنَهُ وَأَوْلاَهُ بالقَبُولِ.. هَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بالنَّعِيمِ المُقِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ،وَأولَئِكَ هُمُ الذِينَ وَفَّقَهُمُ اللهَ تَعَالَى لِلرَّشَادِ وَالصَّوَابِ،وَأولَئِكَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ والأَفْهَامِ السَّلِيمَةِ .[3]
الإكثار من ذكر الله والصلاة على نبيه r:
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب:41 - 42]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ مِنْ عِبَادِهِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ،فَهُوَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَيهِمْ،لِمَا لَهُمْ فِي ذِكْرِ اللهِ مِنْ عَظيمِ الثَّوابِ.وَيَأْمُرُهُمْ تَعَالى أَيضاً بِتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بَيْنَ طَرَفَيِ النَّهَارِ:فِي البُكُورِ عِنْدَ القِيامِ مِنَ النَّومِ،وَوَقْتِ الأَصِيلِ،وَقْتِ الانْتِهَاءِ مِنَ العَمَلِ اليَومِيِّ،فَيَكُونُ الذِّكْرُ فِي الصَّبَاحِ شُكْراً للهِ عَلى بَعْثِ الإِنسْانِ مِنْ رُقَادِهِ،وَفِي المَسَاء شُكْراً لَهُ عَلى تِوفِيقِه لأَداءِ العَمَلِ،والقِيَامِ بالسَّعِي لِلْحُصُولِ عَلَى الرِّزْقِ .[4]
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب
هذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه r،ورفعة درجته،وعلو منزلته عند اللّه وعند خلقه،ورفع ذكره. و { إِنَّ اللَّهَ } تعالى { وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ } عليه،أي: يثني اللّه عليه بين الملائكة،وفي الملأ الأعلى،لمحبته تعالى له،وتثني عليه الملائكة المقربون،ويدعون له ويتضرعون. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } اقتداء باللّه وملائكته،وجزاء له على بعض حقوقه عليكم،وتكميلا لإيمانكم،وتعظيمًا له r،ومحبة وإكرامًا،وزيادة في حسناتكم،وتكفيرًا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام،ما علم به أصحابه: "اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد،وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه مشروع في جميع الأوقات،وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة[5]
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا فَلْيُكْثِرْ عبد مِنْ ذَلِكَ،أَوْ لِيُقلِلْ "[6]
وعَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِى مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ ».[7]
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،قَالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ rإِذَا ذَهَبَ رُبْعُ اللَّيْلِ قَامَ،فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ،اذْكُرُوا اللهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ "فَقَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْهَا ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ "،قَالَ: الرُّبْعُ ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ،وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ "،قَالَ: النِّصْفُ ؟ قَالَ " مَا شِئْتَ،وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ "،قَالَ: ثُلُثَيْنِ ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ،وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ "،قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْعَلُهَا كُلَّهَا لَكَ ؟ قَالَ: " إِذًا تُكْفَى أهَمَّكَ،وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ " " وهَذَا لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ اللهِ،وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَبْدَانَ فِي رِوَايَتِهِ الرُّبُعَ وَالثُّلُثَيْنِ،وَقَالَ فِي آخِرِهِ،قُلْتُ: أَجْعَلُ دُعَائِي كُلَّهُ صَلَاةً عَلَيْكَ ؟ قَالَ: " إِذًا يَكْفِيكَ اللهُ مَا أهَمَّكَ وَيَغْفِرُ لَكَ "[8]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ eقَالَ:مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ رَبَّهُمْ،وَيُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ،إِنْ شَاءَ آخَذَهُمْ بِهِ،وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ. أخرجه أحمد[9]
أفضل الكلام مع الناس:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّداً rبِأَنْ يُبَلِّغَ النَّاسَ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ لَيُبَلِّغَهُمْ إيَّاهُ،وَقَدِ امْتَثَلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأَمْرِ رَبِّهِ .وَيَقُولُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ r: فَإِذَا لَمْ تَقُمْ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ لاَ تَكُونُ قَدْ بَلْغَتَ رِسَالَةَ رَبِّكَ.ثُمَّ يَقُولُ اللهُ لِرَسُولِهِ:لاَ تَخَفْ مِنْ أنْ يَصِلَ إلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِأَذًى،فَأَنْتَ فِي حِفْظِ اللهِ وَرِعَايَتِهِ،وَهُوَ يَمْنَعُكَ مِنْهُمْ،وَيَحْفَظُكَ وَيُؤَيِّدُكَ بِنَصْرِهِ.وَاللهُ هُوَ الذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ،وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ،وَهُوَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ إلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ[10].
وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت .
لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى توحيد الله وعبادته وحده وعمل صالحًا وقال: إنني من المسلمين المنقادين لأمر الله وشرعه. وفي الآية حث على الدعوة إلى الله سبحانه،وبيان فضل العلماء الداعين إليه على بصيرة،وَفْق ما جاء عن رسول الله محمد r.[11]
وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (79) سورة آل عمران
مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَأهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ أنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللهِ،وَلَكِنَّ الرَّسُولَ يَقُولُ لِلنَّاسِ:اعْبُدُوا اللهَ،وَكُونُوا أهْلَ عِبَادَةٍ للهِ وَتَقْوىً ( رَبَّانِيِّينَ )،وَكُونُوا فُقَهَاءً تَفْهَمُونَ شَرَائِعَ دِينِهِ،وَتَحْفَظُونَها،وَتَدْرُسُونَ كُتُبَهُ وَتَعْمَلُونَ بِهَا .[12]
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -e- « لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا.أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ».. أخرجه مسلم[13].
حفظ اللسان عن الباطل:
قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء .
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى العِبَادَ عَنِ القَوْلِ بِلاَ عِلْمٍ،وَبُدُونِ تَثَبُّتٍ،فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الحَدِيثِ فِي أَمْرٍ عَلَى الظَّنِّ وَالشُّبْهَةِ وَالتَّوَهُّمِ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ:لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ بِمَا رَأَتْ عَيْنَاكَ،وَسَمِعَتُهُ أُذُنَاكَ،وَوَعَاهُ قَلْبُكَ .[14]
وقال الله تعالى:{ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل:116 - 117]
وَلاَ تَقُولُوا عَنْ شَيءٍ هَذَا حَرَامٌ،وَهَذا حَلاَلٌ،إِذَا لَمْ يَأْتِكُمْ حِلُّهُ وَتَحْرِيمُهُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ،فَالَّذِي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ.( وَيَدْخُلُ فِي هَذا ابْتِدَاعِ بِدْعَةٍ لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ،أَوْ تَحْلِيلُ شَيءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ،أَوْ تَحْرِيمُ شَيءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِّ وَالهَوَى ) .ثُمَّ يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَفْتَرُونَ الكَذِبَ عَلَى اللهِ،وَيَقُولُ عَنْهُمْ:إِنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا،وَلاَ فِي الآخِرَةِ .[15]
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات .
يَنْهى اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ عَن الظَّنِّ السَّيِّء بإخوانِهِمْ المُؤْمِنينَ،لأنَّ ظَنَّ المُؤْمِنِ السَّوْءَ إِثمٌ،لأنَّ اللهَ نَهَى عَنْ فِعْلِهِ،فَإذا فَعَلَهُ فَهُوَ آثمٌ .ثُمَّ نَهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَنْ أن يَتَجَسَّسَ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ أنْ يَتَتَبَّعَ بَعْضُهُم عَوْرَاتِ بَعْضٍ،وَعَنْ أنْ يَبْحَث الوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ سَرَائِرِ أخِيهِ،وَهُوَ يَبْتَغِي بِذِلَكَ فَضْحَهُ،وَكَشْفَ عُيُوبِهِ .
ثُمَّ نَهَاهم عَنْ أنْ يَغْتَابَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،وَعَنْ أنْ يَذْكُرَ أحَدُهُمْ أخَاهُ بما يَكْرَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَخَلْقِهِ وَخُلُقِهِ وَأهلِهِ وَمَالِهِ وَزَوْجِهِ وَوَلدِهِ.. ( كَما عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ الاغِتْيَابَ ) .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بلِسَانِهِ وَلَم يَدْخُلِ الإِيمانُ قَلْبَهُ:لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمينَ،وَلاَ تَتبَّعُوا عَوْرَاتِهِم فإِنَّ مَنِ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ،وَمَنْ يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ في عُقْرِ بَيْتِهِ " ) .
وَشَبَّه تَعَالى اغْتِيَابَ المُؤْمِنِ لأخيِهِ المؤمِنِ بأكْلِهِ لَحمَهُ بَعْدَ موتِهِ،وَقَالَ لِلمُؤمِنِينَ إنَّهم إذا كَانَ أَحَدُهُمْ يَكْرَهُ أكْلَ لَحْمِ أخِيهِ بَعْدَ مَوتِهِ،وَإذا كَانَتْ نَفْسُهُ تَعَافُ ذَلِكَ فَعَلَيهِمْ أنْ يَكْرَهُوا أنْ يَغْتَابُوهُ في حَيَاتِهِ .
وَلِلْغِيبَةِ ثَلاثَةُ وُجُوهٍ:
الغِيبَةُ - وَهِيَ أنْ يَقُولَ الإِنسَانُ في أخيهِ مَا هُوَ فيه مِمَّا يَكْرَهُهُ .
الإٍفْكُ - أنْ يَقُولَ فِيهِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ .
البُهْتَانُ - أنْ يَقُولُ فيهِ مَا لَيسَ فيهِ ممّا يَكْرَهُهُ .
ثُمَ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى تَقْوى اللهِ،وَعَلَى تَرْكِ الغِيبَةِ،وَمُرَاقَبِتِهِ تَعَالى في السِّرِّ والعَلنِ،فإذا تَابُوا وانتَهَوا واستَغْفَروا رَبَّهم عَمّا فَرَطَ مِنْهُم،اسْتَجَابَ لَهُم رَبُّهُمْ،فَتَابَ عَلَيِهمْ،لأنَّه تَعَالى كَثيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِهِ،كَثِيرُ الرَّحمةِ بِهِمْ .[16]
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - r- قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً،يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ،وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ » [17].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ rقَالَ:أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ،قَالَ:أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ:فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ.. أخرجه مسلم[18]
وعَنْ حُذَيْفَةَ،أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنُمُّ الْحَدِيثَ،فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r،يَقُولُ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ " [19]
الصدق وعدم الكذب:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: " إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ،وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صدِّيقًا،وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ،وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا ". متفق عليه[20]
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ r: عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ،وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا،وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ،وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا."[21]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -r- « عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ».[22]
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - r- قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » متفق عليه[23]
ما يباح من الكذب:
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَّتِى بَايَعْنَ النَّبِىَّ -r- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -r- وَهُوَ يَقُولُ « لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِى خَيْرًا ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِى شَىْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِى ثَلاَثٍ الْحَرْبُ وَالإِصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا.". متفق عليه[24].
وعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ ابْنَةُ يَزِيدَ الْأَشْعَرِيَّةُ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: " كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى بَنِي آدَمَ إِلَّا مَنْ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ،أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا،وَرَجُلٌ كَذَبَ فِي حَرْبٍ "[25]
قَالَ الطحاوي: فَتَأَمَّلْنَا هَذِهِ الْآثَارَ،فَوَجَدْنَا فِيهَا قَوْلَ مَنْ رَوَيْتُ عَنْهُ مِمَّا أُضِيفَ فِيهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْكَذِبِ إِلَى رَسُولِ اللهِ rفَوَجَدْنَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119] وَوَجَدْنَاهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } [الحج: 30] فَكَانَ فِيمَا تَلَوْنَا أَمْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِصَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ rالْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ،وَهُمْ رَسُولُ اللهِ rوَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ،وَلَمْ يُخَصِّصْ ذَلِكَ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ،وَلَا وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ بَلْ عَمَّ بِهِ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا وَالْأَوْقَاتِ كُلَّهَا،وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ اجْتِنَابِهِ فِيهَا هُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا،وَعَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَرَسُولُ اللهِ rأَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ خِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ،ثُمَّ نَظَرْنَا هَلْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ rفِي هَذِهِ الْمَعَانِي سِوَى مَا قَدْ رَوَيْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ،فعَنْ أُمِّ كُلْثُومِ ابْنَةِ عُقْبَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ rيَقُولُ: " لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِي خَيْرًا "
وعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومِ ابْنَةَ عُقْبَةَ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ اللَّاتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللهِ rأَنَّهَا سَمِعَتِ رَسُولَ اللهِ rيَقُولُ: " لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يَنْمِي خَيْرًا،أَوْ يَقُولُ خَيْرًا لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ " وَكَانَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ نَفْيُ رَسُولِ اللهِ rالْكَذِبَ عَمَّنْ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا،وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ مِمَّا لَيْسَ قَائِلُهُ كَاذِبًا،وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،أَنَّ أُمَّ كُلْثُومِ ابْنَةَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ،أَنَّهَا،سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ rيَقُولُ: " لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِي خَيْرًا "،وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ: إِنَّهُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: فِي الْحَرْبِ،وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ،وَحَدِيثِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا"
فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ :إِنَّ الَّذِي فِيهِ حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَخَّصَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ r, وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ rقَالَ: لَا بَأْسَ بِالْكَذِبِ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ rرَخَّصَ فِي ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ،وَكَانَ الَّذِي فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْكَذِبِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَّهُ قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَذِبًا لَيْسَ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ،وَإِنَّمَا هُوَ لِظَنِّهِ ذَلِكَ.وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ وَقَفْنَا بِهِ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ rفِي ذَلِكَ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْبَابَ،فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَهَلْ يُبَاحُ التَّعْرِيضُ فِي مِثْلِ هَذَا حَتَّى يَكُونَ الْمُخَاطَبُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ خِلَافُ حَقِيقَةِ كَلَامِ مَنْ يُخَاطِبُهُ ؟ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ.قَالَ: وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ صَاحِبِهِ لَمَّا قَالَ لَهُ { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } [الكهف: 73] لَيْسَ لِأَنَّهُ نَسِيَ،وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعَارِيضِ الْكَلَامِ،وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ rمِنْ قَوْلِهِ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ،وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْحَرْبِ عَقَلْنَا بِهِ أَنَّ الْمُرَخَّصَ فِيهِ فِي الْحَرْبِ فِي الْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ لَا مَا سِوَاهُ،وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْحَرْبِ كَانَ الَّذِي يُصْلِحُ بِهِ الرَّجُلُ بَيْنَ النَّاسِ،وَالَّذِي يُصْلِحُ بِهِ قَلْبَ زَوْجَتِهِ،وَالَّذِي تُصْلِحُ بِهِ الزَّوْجَةُ قَلْبَ زَوْجِهَا هُوَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا لَا الْكَذِبَ،وَقَدْ حُقِّقَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ،وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّهُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ،أَيْ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّهُ كَذِبٌ،وَلَيْسَ بِكَذِبٍ،وَهَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ الْأَوْلَى بِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَحْمِلُوا أُمُورَ رَسُولِ اللهِ rعَلَيْهَا،وَفِيمَا رَوَيْنَا مِنْ أَحَادِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ هَذِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ rلَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يَمْشِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُهُ،وَفِي ذَلِكَ نَفْيُ رَسُولُ اللهِ rعَمَّنْ كَانَتْ تِلْكَ حَالُهُ الْكَذِبَ،وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُ بِذَلِكَ الْكَذِبُ انْتَفَى عَمَّنْ كَانَ مِنْهُ الْكَذِبُ أَيْضًا،وَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي كَانَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْمَعَارِيضَ لَا مَا سِوَاهَا ."
اجتناب الفحش واللعن:
1قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع،ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس. وهي من كرامة المجموع. ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس،لأن الجماعة كلها وحدة،كرامتها واحدة.
والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا». وينهاهم أن يسخر قوم بقوم،أي رجال برجال،فلعلهم خير منهم عند اللّه،أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان اللّه.
وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية،التي يوزن بها الناس. فهناك قيم أخرى،قد تكون خافية عليهم،يعلمها اللّه،ويزن بها العباد.وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير. والرجل القوي من الرجل الضعيف،والرجل السوي من الرجل المؤوف. وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام. وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم. وذو العصبية من اليتيم ...
وقد تسخر الجميلة من القبيحة،والشابة من العجوز،والمعتدلة من المشوهة،والغنية من الفقيرة .. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس،فميزان اللّه يرفع ويخفض بغير هذه الموازين! ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإيحاء،بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية،ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها فقد لمزها:«وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» .. واللمز:العيب. ولكن للفظة جرسا وظلا فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية! ومن السخرية واللمز التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها،ويحسون فيها سخرية وعيبا. ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به - ومن أدب المؤمن ألا يؤذي أخاه بمثل هذا. وقد غير رسول اللّه - r- أسماء وألقابا كانت في الجاهلية لأصحابها،أحس فيها بحسه المرهف،وقلبه الكريم،بما يزري بأصحابها،أو يصفهم بوصف ذميم. والآية بعد الإيحاء بالقيم الحقيقة في ميزان اللّه،وبعد استجاشة شعور الأخوة،بل شعور الاندماج في نفس واحدة،تستثير معنى الإيمان،وتحذر المؤمنين من فقدان هذا الوصف الكريم،والفسوق عنه والانحراف بالسخرية واللمز والتنابز:«بِئْسَ الِاسْمُ:الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ». فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان! وتهدد باعتبار هذا ظلما،والظلم أحد التعبيرات عن الشرك:«وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم.[26]
وقال الله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (19) سورة لقمان
وَامشِ مُقْتَصِداًَ فِي مَشْيِكَ،عَدْلاً وَسَطاً بَيْنَ البَطِيءِ المُتَثَبِّطِ،والسَّريعِ المُفْرِطِ،وَلا تُبَالِغْ فِي الكَلاَمِ،وَلا تَرْفَعَ صَوْتَكَ فِيمَا لا فَائِدَةَ مِنْهُ،وَحِينَما لاَ تَكُونَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلى رَفْعِ الصَّوتِ،فَذَلِكَ يَكُونُ أَوْقَرَ لِلمُتَكَلِّمِ،وأَبْسَطَ لِنَفْسِ السَّامِعِ.ثُمَّ قَالَ لُقْمَانُ لاْبِنِهِ مُنَفِّراً إِيَّاهُ مِنْ رَفْعِ صَوْتِهِ حِينَما لاَ يَكُونُ هُنَاكَ حَاجَةً لِذلِك:إِنَّ الحِمَارَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عِندَ النَّهِيقِ،ولكِنَّ الصَّوْتَ الذِي يَصْدُرُ عَنْهُ قَبيحٌ مُنْكَرٌ،فَلاَ يَلِيقُ بالإِنسَانِ العَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَ الحِمَارِ .[27]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - r- فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا »[28]
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،قَالَ:كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُرْسِلُ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ،قَالَ:وَرُبَّمَا بَاتَتْ عِنْدَهُ،قَالَ:فَدَعَا عَبْدُ الْمَلِكِ خَادِمًا فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ،فَقَالَ:اللَّهُمَّ الْعَنْهُ،فَقَالَتْ:لاَ تَلْعَنْهُ،فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ rقَالَ:إِنَّ اللَّعَّانَيْنَ لاَ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ،وَلاَ شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.[29]
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،قَالَ:كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ،يُرْسِلُ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ،فَتَبِيتُ عِنْدَ نِسَائِهِ،وَيَسْأَلُهَا عَنِ النَّبِيِّ r،قَالَ:فَقَامَ لَيْلَةً فَدَعَا خَادِمَهُ،فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ فَلَعَنَهَا فَقَالَتْ:لاَ تَلْعَنْ فَإِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ rيَقُولُ:إِنَّ اللَّعَّانِينَ لاَ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ،وَلاَ شُفَعَاءَ. "[30]
قلة الكلام وعدم الخوض في الباطل:
قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (68) سورة الأنعام
كَانَ المُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إلى النَّبِيِّ rيُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ،فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَؤُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ إذَا اسْتَهْزَؤُوا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِمْ فَحَذِرُوا،وَقَالُوا لاَ تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومُ.وَالمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الآيَةِ الرَّسُولُ rوَالمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ،فَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ المُنْزَلَةِ،مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ،وَأَهْلَ الأَهْوَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُدَّ عَنْهُمْ بِوَجْهِهِ،وَأَنْ لاَ يَجْلِسَ مَعَهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَ حَدِيثِ الكُفْرِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللهِ أَوْ تَأْوِيلِهَا بِالبَاطِلِ مِنْ جَانِبِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ،وَإِذَا أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ،أَيُّهَا المُؤْمِنُ،هَذَا النَّهْيَ،وَقَعَدْتَ مَعَهُمْ،وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الحَالِ،ثُمَّ ذَكَرْتَ فَقُمْ عَنْهُمْ،وَلاَ تَقْعُدْ مَعَ هؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ،وَالاسْتِهْزَاءِ بِهَا .[31]
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -e- « إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ،وَوَأْدَ الْبَنَاتِ،وَمَنَعَ وَهَاتِ،وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ،وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ،وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ».متفق عليه[32].
الصمت وعدم الكلام إلا بخير:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ r،قَالَ:مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ. ». متفق عليه [33]
وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصمُتْ "[34]
عدم مقاطعة الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:بَيْنَمَا النَّبِيُّ rفِى مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ rيُحَدِّثُ،فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ،فَكَرِهَ مَا قَالَ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ،حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ.قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.قَالَ فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَة.. أخرجه البخاري[35].
عدم إطالة الحديث:
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ النَّبِىَّ - r- كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ ..[36]
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ،فَأَبْلَغْ وَأَوْجَزْ،فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ،لَقَدْ أَبَلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ،فَلَوْ كُنْتَ نَفَّسْتَ،فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ rيَقُولُ: " إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ،وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ،فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ،فَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا ". أخرجه مسلم[37]
عدم الإكثار من الأسئلة:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (101) سورة المائدة
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ،وَيَنْهَاهُمْ عَنْ أنْ يَسْألُوا عَنْ أشْيَاءَ لاَ فَائِدَةَ لَهُمْ فِي السُؤَالِ عَنْهَا،وَعَنِ التَّنْقِيبِ عَنْ خَفَايَاهَا،لأَنَّها إنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الأشْيَاءُ رُبَّمَا سَاءَتْهُمْ،وَشَقَّ عَلَيْهِمْ سَمَاعُهَا .وَيَقُولُ تَعَالَى:إذَا سَألْتُمْ عَنْ هَذِهِ الأشْيَاءِ التِي نُهِيتُمْ عَنِ السُّؤَالِ عَنْها،حِينَ يَنْزِلُ القُرآنُ فِي شَأنِهَا أوْ حُكْمِهَا،أوْ لأجْلِ فَهْمِ مَا نَزَلَ إلَيكُمْ،فَإنَّ اللهَ يُبْدِيهِ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ .وَقِيلَ إنَّ المَقْصُودَ بِقَولِهِ تَعَالَى:{ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } هُوَ لاَ تَسْألُوا عَنْ أَشْيَاءَ تَسْتَأنِفُونَ السُّؤَالَ عَنْها،فَلَعَلَّهُ يَنْزِلُ بِسَبَبِ سُؤَالِكُمْ تَشْدِيدٌ أَوْ تَضْيِيقٌ .[38]
وعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ النَّبِىُّ - r- عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا،فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ،ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ « سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ ».قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِى قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ ».فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ ».فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِى وَجْهِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .[39]
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ -e- « إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ،وَوَأْدَ الْبَنَاتِ،وَمَنَعَ وَهَاتِ،وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ،وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ،وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ».متفق عليه[40]
الجهر عند وعظ الناس:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِىُّ - r- فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا،فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ،فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا،فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ».مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا .[41]
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ rإِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ،وَعَلاَ صَوْتُهُ،وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ،حَتَّى كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ،يَقُولُ:صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ،وَيَقُولُ:بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ:أَمَّا بَعْدُ،فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ،وَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا،وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ،ثُمَّ يَقُولُ:أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ،مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ،وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ." أخرجه مسلم[42].
تكرار الكلام ليُفهم عنه:
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - r- أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ،وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا .. أخرجه البخاري[43].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:أَنّ رَسُولَ اللَّهِ rكَانَ:إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ،أَعَادَهَا ثَلاثًا لِتُعْقَلَ عَنْهُ"[44]
وعَنْ عُرْوَةَ قَالَ:كَانَ ابُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ:اسْمَعِي يَارَبَّةَ الْحُجْرَةِ اسْمَعِي يَارَبَّةَ الْحُجْرَةِ.وعَائِشَةُ تُصَلِّي.فَلَمَّا قَضَتْ صَلاتَهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ:الا تسْمَعُ إِلَى هَذَا وَمَقَالَتِهِ انِفًا ؟
إِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ rيُحَدِّثُ حَدِيثًا،لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لاحْصَاهُ.[45]
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - r- « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ».ثَلاَثًا.قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ».وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ « أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ ».قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ.متفق عليه[46].
مخاطبة الناس بالكلام اللين الحسن:
قال الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} (53) سورة الإسراء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَنْصَحَ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ،وَمُحَاوَرَتِهِم الكَلاَمِيَّةِ،العِبَارَاتِ الأَحْسَنِ،وَالكَلِمَاتِ الأَطْيَبِ،فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نَزَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ،وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الشَّرَّ وَالمُخَاصَمَةَ،وَالعَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ،فَهُوَ عَدٌّو لِذُرِّيَّةِ آدَمَ،ظَاهِرُ العَدَاوَةِ سَافِرُهَا .[47]
وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} (83) سورة البقرة
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى بَني إَسْرَائِيلَ بِأَوَامِرِهِ إِلَيهِمْ،وَبِالمِيثَاقِ الذِي أَخَذَهُ عَلَيهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَغَيرِهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ أَلاَّ يَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ،لا شَرِيكَ لَهُ،وَأَلاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيئاً،وَأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الوَالِدَينِ،وَأَنْ يُحسِنُوا إِلَى ذَوِي قُربَاهُمْ،وَإِلَى اليَتَامَى الذِين مَاتَ آبَاؤُهُمْ،وإِلى المَسَاكِينِ الذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعِيَالِهِمْ،وَأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَةَ النَّاسِ وَمُعَاشَرَتَهُمْ،وَأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ كَلِمَاتٍ طَيِّبَاتٍ ( وَيدخُلُ فِي ذلِكَ الأَمرُ بِالمَعْروفِ والنَّهيُ عَنْ المُنْكَرِ ) وَأَنْ يُقِيموا الصَّلاَةَ،وَأَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ.وَلكِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَوَلَّوْا عَنْ ذلِكَ،وَأَعْرَضُوا عَنْهُ عَنْ عَمْدٍ،بَعْدَ العِلْمِ بِهِ،وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ بِأَمْرِ اللهِ إِلاَّ قَلِيلُونَ،أَقَامُوا الشَّرِيعَةَ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ فِي زَمَنِ مُوسَى وَبَعْدَهُ،وَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ حِينَمَا أَدْرَكُوهُ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَّمٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ سعيدٍ .[48]
وقال الله تعالى: { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه:42 - 46]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ هَارُونَ مُؤَيَّدَيْنِ بِمُعْجِزَاتِي،وَحُجَجِي،وَبَرَاهِينِي الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِكُمَا،إِلَى فِرْعَوْنَ،وَلاَ تَفْتُرا عَنْ ذِكْرِي عِنْدَ لِقَائِكُمَا إِيَّاهُ،لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْناً لَكُمَا،وَقُوَّةً وَسُلْطَاناً كَاسِراً لَهُ،وَلاَ تَتَهَاوَنَا فِي دَعْوَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ مَا أَرْسَلْتُكُمَا بِهِ إِلَيْهِ .اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ عَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ،وَتَمَرَّدَ وَتَجَبَّرَ عَلَى اللهِ وَعَصَاهُ .وَادْعُوَاهُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَحُسْنَى إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ،وَتَرْكِ العُتُوِّ،وَالتَّجَبُّرِ وَالاسْتِعْلاَءِ عَلَى خَلْقِ اللهِ،لَعَلَّ الكَلاَمَ الرَّقِيقَ اللَّيِّنِ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَرْجِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ،وَيَتَذَكَّرُ آيَاتِ اللهِ وَيَخْشَى لِقَاءَهُ وَعَذَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ،فَيَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ .فَقَالَ هَارُونَ وَمُوسَى،عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ:يَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَبْطِشَ بِنَا فِرْعَوْنُ إِنْ نَحْنُ دَعَوْنَاهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ،وَالكَفِّ عَنِ العُتُوِّ وَالطُّغْيَانِ،وَنَخْشَى أَنْ يُعَجِّلَ لَنَا بِالعُقُوبَةِ،أَوْ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْنَا.قَالَ اللهُ تَعَالَى:لاَ تَخَافَا فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلاَمَكُمَا وَكَلاَمَهُ،وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ،وَلاَ يَخْفَى عَلَيِّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيءٌ،وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي،فَلاَ يَتَكَلَّمُ،وَلاَ يَتَنَفَّسُ،وَلاَ يَبْطِشُ إِلاَّ بِإِذْنِي،وَأَنْتُمَا فِي حِفْظِي وَرِعَايَتِي .[49]
اذهب أنت وأخوك مزودين بآياتي وقد شهد منها آية العصا وآية اليد - ولا تنيا في ذكري فهو عدتكما وسلاحكما وسندكما الذي تأويان منه إلى ركن شديد .. اذهبا إلى فرعون. وقد حفظتك من شره من قبل.وأنت طفل وقد قذفت في التابوت،فقذف التابوت في اليم،فألقاه اليم بالساحل،فلم تضرك هذه الخشونة،ولم تؤذك هذه المخاوف. فالآن أنت معد مهيأ،ومعك أخوك. فلا عليك وقد نجوت مما هو أشد،في ظروف أسوأ وأعنف.اذهبا إلى فرعون فقد طغى وتجبر وعتا «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة. ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.اذهبا إليه غير يائسين من هدايته،راجيين أن يتذكر ويخشى. فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة،ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار.وإن اللّه ليعلم ما يكون من فرعون. ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه. واللّه يحاسب الناس