الصبرذات يوم مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبر، فرأى
امرأة جالسة إلى جواره وهي تبكي على ولدها الذي مات، فقال لها النبي صلى
الله عليه وسلم: (اتقي الله واصبري). فقالت المرأة: إليك عني، فإنك لم
تُصَبْ بمصيبتي.
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن المرأة تعرفه، فقال لها الناس:
إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرعت المرأة إلى بيت النبي صلى الله
عليه وسلم تعتذر إليه، وتقول: لَمْ أعرفك. فقال لها النبي صلى الله عليه
وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) [متفق عليه]. أي يجب على الإنسان أن
يصبر في بداية المصيبة.
***
أسلم عمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه سمية -رضي الله عنهم- وعلم الكفار
بإسلامهم، فأخذوهم جميعًا، وظلوا يعذبونهم عذابًا شديدًا، فلما مرَّ عليهم
الرسول صلى الله عليه وسلم، قال لهم: (صبرًا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة)
[الحاكم]. وصبر آل ياسر، وتحملوا ما أصابهم من العذاب، حتى مات الأب والأم
من شدة العذاب، واستشهد الابن بعد ذلك في إحدى المعارك؛ ليكونوا جميعًا من
السابقين إلى الجنة، الضاربين أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى.
ما هو الصبر؟
الصبر هو أن يلتزم الإنسان بما يأمره الله به فيؤديه كاملا، وأن يجتنب ما
ينهاه عنه، وأن يتقبل بنفس راضية ما يصيبه من مصائب وشدائد، والمسلم يتجمل
بالصبر، ويتحمل المشاق، ولا يجزع، ولا يحزن لمصائب الدهر ونكباته. يقول
الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع
الصابرين} [البقرة: 153].
الصبر خلق الأنبياء:
ضرب أنبياء الله -صلوات الله عليهم- أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى من
أجل الدعوة إلى الله، وقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاق في
سبيل نشر الإسلام، وكان أهل قريش يرفضون دعوته للإسلام ويسبونه، ولا
يستجيبون له، وكان جيرانه من المشركين يؤذونه ويلقون الأذى أمام بيته، فلا
يقابل ذلك إلا بالصبر الجميل. يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن
صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحمله للأذى: (كأني أنظر رسول الله صلى
الله عليه وسلم يحكي (يُشْبِه) نبيًّا من الأنبياء -صلوات الله وسلامه
عليهم- ضربه قومه فأدموه (أصابوه وجرحوه)، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) [متفق عليه].
وقد وصف الله -تعالى- كثيرًا من أنبيائه بالصبر، فقال تعالى: {وإسماعيل
وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين . وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}
[الأنبياء: 85-86].
وقال الله تعالى: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} [الأحقاف: 35].
وأولو العزم من الرسل هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد -عليهم صلوات
الله وسلامه-.
وقال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وآذوا في سبيلي حتى أتاهم نصرنا} [الأنعام: 34].
وقال تعالى عن نبيه أيوب: {إنا وجدناه صابرًا نعم العبد إنه أواب}
[ص: 44]، فقد كان أيوب -عليه السلام- رجلا كثير المال والأهل، فابتلاه الله
واختبره في ذلك كله، فأصابته الأمراض، وظل ملازمًا لفراش المرض سنوات
طويلة، وفقد ماله وأولاده، ولم يبْقَ له إلا زوجته التي وقفت بجانبه صابرة
محتسبة وفيةً له.
وكان أيوب مثلا عظيمًا في الصبر، فقد كان مؤمنًا بأن ذلك قضاء الله، وظل
لسانه ذاكرًا، وقلبه شاكرًا، فأمره الله أن يضرب الأرض برجله ففعل، فأخرج
الله له عين ماء باردة، وأمره أن يغتسل ويشرب منها، ففعل، فأذهب الله عنه
الألم والأذى والمرض، وأبدله صحة وجمالا ومالا كثيرًا، وعوَّضه بأولاد
صالحين جزاءً له على صبره، قال تعالى: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة
منا وذكرى لأولي الألباب} [ص: 43].
فضل الصبر:
أعد الله للصابرين الثواب العظيم والمغفرة الواسعة، يقول تعالى: {وبشر
الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .
أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155-157].
ويقول: {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما أُعْطِي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)
[متفق عليه]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نَصَبٍ (تعب)
ولا وَصَبٍ (مرض) ولا هَمّ ولا حَزَنٍ ولا أذى ولا غَمّ حتى الشوكة
يُشَاكُها إلا كفَّر الله بها من خطاياه) [متفق عليه].
أنواع الصبر:
الصبر أنواع كثيرة، منها: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على
المرض، والصبر على المصائب، والصبر على الفقر، والصبر على أذى
الناس.. إلخ.
الصبر على الطاعة: فالمسلم يصبر على الطاعات؛ لأنها تحتاج إلى جهد وعزيمة
لتأديتها في أوقاتها على خير وجه، والمحافظة عليها. يقول الله -تعالى-
لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
يريدون وجهه} [الكهف: 28]. ويقول تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها}
[طه: 132].
الصبر عن المعصية: المسلم يقاوم المغريات التي تزين له المعصية، وهذا يحتاج
إلى صبر عظيم، وإرادة قوية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل
المهاجرين من هجر ما نهي الله عنه، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات
الله -عز وجل-) [الطبراني].
الصبر على المرض: إذا صبر المسلم على مرض ابتلاه الله به، كافأه الله عليه
بأحسن الجزاء، قال صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بمصيبة في ماله أو جسده،
وكتمها ولم يشْكُهَا إلى الناس، كان حقًّا على الله أن يغفر له).
[الطبراني].
وصبر المسلم على مرضه سبب في دخوله الجنة، فالسيدة أم زُفَر -رضي الله
عنها- كانت مريضة بالصَّرَع، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو
الله لها بالشفاء. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئتِ صبرتِ ولكِ
الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيكِ). فاختارت أن تصبر على مرضها ولها
الجنة في الآخرة. [متفق عليه]. ويقول تعالى في الحديث القدسي: (إذا ابتليتُ
عبدي بحبيبتيه (عينيه) فصبر، عوضتُه منهما الجنة) [البخاري].
الصبر على المصائب: المسلم يصبر على ما يصيبه في ماله أو نفسه أو
أهله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن
عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صَفِيهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)
[البخاري]. وقد مرَّت أعرابية على بعض الناس، فوجدتهم يصرخون، فقالت: ما
هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان. فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون،
وبقضائه يتبرمون (يضيقون)، وعن ثوابه يرغبون (يبتعدون).
وقال الإمام علي: إن صبرتَ جرى عليك القلم وأنتَ مأجور (لك أجر وثواب)، وإن جزعتَ جرى عليكَ القلم وأنت مأزور (عليك وزر وذنب).
الصبر على ضيق الحياة: المسلم يصبر على عسر الحياة وضيقها، ولا يشكو حاله
إلا لربه، وله الأسوة والقدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه
أمهات المؤمنين، فالسيدة عائشة -رضي الله عنها- تحكي أنه كان يمر الشهران
الكاملان دون أن يوقَد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وكانوا
يعيشون على التمر والماء. [متفق عليه].
الصبر على أذى الناس: قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم إذا كان مخالطًا
الناس ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على
أذاهم) [الترمذي].
الصبر المكروه:
الصبر ليس كله محمودًا، فهو في بعض الأحيان يكون مكروهًا. والصبر المكروه
هو الصبر الذي يؤدي إلى الذل والهوان، أو يؤدي إلى التفريط في الدين أو
تضييع بعض فرائضه، أما الصبر المحمود فهو الصبر على بلاء لا يقدر الإنسان
على إزالته أو التخلص منه، أو بلاء ليس فيه ضرر بالشرع. أما إذا كان المسلم
قادرًا على دفعه أو رفعه أو كان فيه ضرر بالشرع فصبره حينئذ لا يكون
مطلوبًا.
قال الله -تعالى-: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم
قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا} [النساء: 97].
الأمور التي تعين على الصبر:
* معرفة أن الحياة الدنيا زائلة لا دوام فيها.
* معرفة الإنسـان أنه ملْكُ لله -تعالى- أولا وأخيرًا، وأن مصيره إلى الله تعالى.
* التيقن بحسن الجزاء عند الله، وأن الصابرين ينتظرهم أحسن الجزاء من الله،
قال تعالى: {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}
[النحل: 96].
* اليقين بأن نصر الله قريب، وأن فرجه آتٍ، وأن بعد الضيق سعة، وأن بعد
العسر يسرًا، وأن ما وعد الله به المبتلِين من الجزاء لابد أن يتحقق. قال
تعالى: {فإن مع العسر يسرًا. إن مع العسر يسرًا} [الشرح: 5-6].
* الاستعانة بالله واللجوء إلى حماه، فيشعر المسلم الصابر بأن الله معه،
وأنه في رعايته. قال الله -تعالى-: {واصبروا إن الله مع الصابرين}
[الأنفال: 46].
* الاقتداء بأهل الصبر والعزائم، والتأمل في سير الصابرين وما لاقوه من ألوان البلاء والشدائد، وبخاصة أنبياء الله ورسله.
* الإيمان بقدر الله، وأن قضاءه نافذ لا محالة، وأن ما أصاب الإنسان لم يكن
ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض
ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله
يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 22-23].
الابتعاد عن الاستعجال والغضب وشدة الحزن والضيق واليأس من رحمة الله؛ لأن كل ذلك يضعف من الصبر والمثابرة.
الصدقيحكى أن رجلا كان يعصي الله -سبحانه- وكان فيه كثير من
العيوب، فحاول أن يصلحها، فلم يستطع، فذهب إلى عالم، وطلب منه وصية يعالج
بها عيوبه، فأمره العالم أن يعالج عيبًا واحدًا وهو الكذب، وأوصاه بالصدق
في كل حال، وأخذ من الرجل عهدًا على ذلك، وبعد فترة أراد الرجل أن يشرب
خمرًا فاشتراها وملأ كأسًا منها، وعندما رفعها إلى فمه قال: ماذا أقول
للعالم إن سألني: هل شربتَ خمرًا؟ فهل أكذب عليه؟ لا، لن أشرب الخمر أبدًا.
وفي اليوم التالي، أراد الرجل أن يفعل ذنبًا آخر، لكنه تذكر عهده مع العالم
بالصدق. فلم يفعل ذلك الذنب، وكلما أراد الرجل أن يفعل ذنبًا امتنع عن
فعله حتى لا يكذب على العالم، وبمرور الأيام تخلى الرجل عن كل عيوبه بفضل
تمسكه بخلق الصدق.
ويحكى أن طفلا كان كثير الكذب، سواءً في الجد أو المزاح، وفي إحدى المرات
كان يسبح بجوار شاطئ البحر وتظاهر بأنه سيغرق، وظل ينادي أصحابه: أنقذوني
أنقذوني.. إني أغرق. فجرى زملاؤه إليه لينقذوه فإذا به يضحك لأنه خدعهم،
وفعل معهم ذلك أكثر من مرة.
وفي إحدى هذه المرات ارتفع الموج، وكاد الطفل أن يغرق، فأخذ ينادي ويستنجد
بأصحابه، لكنهم ظنوا أنه يكذب عليهم كعادته، فلم يلتفتوا إليه حتى جري أحد
الناس نحوه وأنقذه، فقال الولد لأصحابه: لقد عاقبني الله على كذبي عليكم،
ولن أكذب بعد اليوم. وبعدها لم يعد هذا الطفل إلى الكذب مرة أخري.
ما هو الصدق؟
الصدق هو قول الحق ومطابقة الكلام للواقع. وقد أمر الله -تعالى- بالصدق،
فقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119].
صدق الله:
يقول الله تعالى: {ومن أصدق من الله قيلا} [النساء: 122]، فلا أحد أصدق منه
قولا، وأصدق الحديث كتاب الله -تعالى-. وقال تعالى: {هذا ما وعدنا الله
ورسوله وصدق الله ورسوله} [الأحزاب: 22].
صدق الأنبياء:
أثنى الله على كثير من أنبيائه بالصدق، فقال تعالى عن نبي الله إبراهيم: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقًا نبيًا} [مريم: 41].
وقال الله تعالى عن إسماعيل: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيًا} [مريم: 54].
وقال الله تعالى عن يوسف: {يوسف أيها الصديق} [يوسف: 46].
وقال تعالى عن إدريس: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقًا نبيًا} [مريم: 56].
وكان الصدق صفة لازمة للرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قومه ينادونه
بالصادق الأمين، ولقد قالت له السيدة خديجة -رضي الله عنها- عند نزول الوحي
عليه: إنك لَتَصْدُقُ الحديث..
أنواع الصدق:
المسلم يكون صادقًا مع الله وصادقًا مع الناس وصادقًا مع نفسه.
الصدق مع الله: وذلك بإخلاص الأعمال كلها لله، فلا يكون فيها رياءٌ ولا
سمعةٌ، فمن عمل عملا لم يخلص فيه النية لله لم يتقبل الله منه عمله،
والمسلم يخلص في جميع الطاعات بإعطائها حقها وأدائها على الوجه المطلوب
منه.
الصدق مع الناس: فلا يكذب المسلم في حديثه مع الآخرين، وقد روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (كَبُرَتْ خيانة أن تحدِّث أخاك حديثًا، هو لك
مصدِّق، وأنت له كاذب) [أحمد].
الصدق مع النفس: فالمسلم الصادق لا يخدع نفسه، ويعترف بعيوبه وأخطائه
ويصححها، فهو يعلم أن الصدق طريق النجاة، قال صلى الله عليه وسلم: (دع ما
يُرِيبُك إلى ما لا يُرِيبُك، فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة) [الترمذي].
فضل الصدق:
أثنى الله على الصادقين بأنهم هم المتقون أصحاب الجنة، جزاء لهم على صدقهم،
فقال تعالى: {أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} [البقرة: 177].
وقال تعالى: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}
[المائدة: 119].
والصدق طمأنينة، ومنجاة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (تحروا
الصدق وإن رأيتم أن فيه الهَلَكَة، فإن فيه النجاة) [ابن أبي الدنيا].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي
إلى الجنة، وإن الرجل ليَصْدُقُ؛ حتى يُكْتَبَ عند الله صِدِّيقًا، وإن
الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيَكْذِبُ،
حتى يكْتَبَ عند الله كذابًا) [متفق عليه].
فأحرى بكل مسلم وأجدر به أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقه، وأن يجعل الصدق صفة دائمة له، وما أجمل قول الشاعر:
عليك بالصـدق ولــو أنـــه
أَحْـرقَكَ الصدق بنـار الوعـيـد
وابْغِ رضـا المـولي، فأَشْقَـي الوري
من أسخط المولي وأرضي العبيــد
وقال الشاعر:
وعـوِّد لسـانك قول الصدق تَحْظَ به
إن اللسـان لمــا عـوَّدْتَ معــتـادُ
الكذب:
وهو أن يقول الإنسان كلامًا خلاف الحق والواقع، وهو علامة من علامات
النفاق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب،
وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) [متفق عليه].
والمؤمن الحق لا يكذب أبدًا، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: (نعم).
قيل: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: (نعم).
قيل: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: (لا) [مالك].
والكذاب لا يستطيع أن يداري كذبه أو ينكره، بل إن الكذب يظهر عليه، قال
الإمام علي: ما أضمر أحد شيئًا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه.
وليس هناك كذب أبيض وكذب أسود، أو كذب صغير وكذب كبير، فكل الكذب مكروه
منبوذ، والمسلم يحاسَب على كذبه ويعاقَب عليه، حتى ولو كان صغيرًا، وقد
قالت السيدة أسماء بنت يزيد -رضي الله عنها- لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: يا رسول الله، إذا قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، يعدُّ ذلك
كذبًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الكذب يكْتَبُ كذبًا، حتى تُكْتَبَ
الكُذَيبَة كذيبة) [أحمد].
وعن عبد الله بن عامر -رضي الله عنه- قال: دعتني أمي يومًا -ورسول الله صلى
الله عليه وسلم قاعد في بيتنا- فقالت: تعالَ أعطِك، فقال لها: (ما أردتِ
أن تعطيه؟). قالت: أردتُ أن أعطيه تمرًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(أما إنك لو لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليك كذبة) [أبوداود].
الكذب المباح:
هناك حالات ثلاث يرخص للمرء فيها أن يكذب، ويقول غير الحقيقة، ولا يعاقبه الله على هذا؛ بل إن له أجرًا على ذلك، وهذه الحالات هي:
الصلح بين المتخاصمين: فإذا علمتَ أن اثنين من أصدقائك قد تخاصما، وحاولت
أن تصلح بينهما، فلا مانع من أن تقول للأول: إن فلانًا يحبك ويصفك بالخير..
وتقول للثاني نفس الكلام...وهكذا حتى يعود المتخاصمان إلى ما كان بينهما
من محبة ومودة.
الكذب على الأعداء: فإذا وقع المسلم في أيدي الأعداء وطلبوا منه معلومات عن
بلاده، فعليه ألا يخبرهم بما يريدون، بل يعطيهم معلومات كاذبة حتى لا يضر
بلاده.
في الحياة الزوجية: فليس من أدب الإسلام أن يقول الرجل لزوجته: إنها قبيحة
ودميمة، وأنه لا يحبها، ولا يرغب فيها، بل على الزوج أن يطيب خاطر زوجته،
ويرضيها، ويصفها بالجمال، ويبين لها سعادته بها -ولو كان كذبًا-، وكذلك على
المرأة أن تفعل هذا مع زوجها، ولا يعد هذا من الكذب، بل إن صاحبه يأخذ
عليه الأجر من الله رب العالمين.
المسلم لا يكذب في المدح أو المزاح:
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا منافقين يمدحون مَنْ أمامهم ولو
كذبًا، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم
التراب) [مسلم].
وهناك أناس يريدون أن يضحكوا الناس؛ فيكذبون من أجل إضحاكهم، وقد نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (ويل للذي يحدِّث بالحديث ليضحك به
القوم؛ فيكذب، ويل له، ويل له) [الترمذي].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم بيت في رَبَضِ الجنة (أطرافها) لمن ترك
المراء وإن كان مُحِقَّا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان
مازحًا، وبيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه) [أبوداود].
وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- إذا سمع من يمدحه يقول: اللهم أنت أعلم
بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر
لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون