قال ابن الجوزي : (( ضاق بي أمر أوجب غما لازما دائما ، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة ، وبكل وجه ، فما رأيت طريقا للخلاص .. فعرضت لي هذه الآية { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً } (الطلاق: من الآية2) ، فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم ، فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج )) .
والتقوى عرفها علماء الشريعة فقالوا: إنها صيانة الإنسان نفسه مما يوجب العقوبة من فعل أو ترك.
وقسموها إلى مراتب: أولها: توقي الشرك. ثانيها: توقي الكبائر، ومنها الإصرار على الصغائر. ثالثها: ما أشار إليها حديث عطية السعدي عند أحمد، والبخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، وابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، قال: قال رسول الله : " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به بأس".
وقال ابن مسعود في قوله تعالى:{ اتقوا الله حق تقاته} . (آل عمران:102) قال: أن يُطاع فلا يُعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر“.
و( المتقون) جمع مُتَّقٍ، وهو دال على الاجتناب، لأنه مأخوذ من وقاه يقيه فاتقاه؛ بمعنى: جنبه يجنبه فاجتنبه.واستخدم مجازا في اجتناب ما يسخط الله . قال ابن عباس رضي الله عنهما: < المتقون: الذين يحذرون من الله وعقوبته . >.
في سورة الطلاق وردت آيات كريمة : - قوله تعالى:{ ومن يتق الله يجعل له مخرجًا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } (الطلاق:2-3) - قوله سبحانه: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } (الطلاق:3) - قوله عز وجل: { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا } (الطلاق:4) - قوله تعالى: { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا } (الطلاق:5)
ولنا مع هذه الآيات بضع وقفات: 1- أن الجزاء في ثلاث من هذه الآيات رُتب على تقوى الله؛ وتقوى الله في معهود الشرع، فعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه، وهي رأس الأمر كله، وفي وصية رسول الله لبعض صحابته، قوله عليه الصلاة والسلام: ( اتق الله حيثما كنت ) رواه أحمد و الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح .
2 - جاء قوله تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } تكملة لأمر التقوى؛ فإذا كانت تقوى الله سبب لتفريج الكربات، ورفع الملمات، وكشف المهمات، فإن في توكل المسلم على ربه سبحانه، ويقينه أنه سبحانه يصرف عنه كل سوء وشر، ما يجعل له مخرجًا مما هو فيه، وييسر له من أسباب الرزق من حيث لا يدري؛
وأكد هذا المعنى ما جاء في الآية نفسها، وهو قوله تعالى: { إن الله بالغ أمره } أي: لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة، فإن الله إذا أراد أمرًا يسر وهيأ أسبابه .وقد وردت عدة أحاديث تشد من أزر هذا المعنى؛ من ذلك ما رواه أبوذر رضي الله عنه، قال: قال النبي : ( إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم )، ثم تلا قوله تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب }.وروى الإمام أحمد في "مسنده" عن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر ) .
3- أن الله سبحانه وعد عباده المتقين الواقفين عند حدوده، بأن يجعل لهم مخرجًا من الضائقات والكربات التي نزلت بهم؛ وقد شبَّه سبحانه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على المقيم فيه، وشبَّه ما يمنحهم الله به من اللطف وتيسير الأمور، بجعل منفذ في المكان المغلق، يتخلص منه المتضائق فيه .
4- في قوله تعالى سبحانه: { من حيث لا يحتسب } أي: من مكان لا يحتسب منه الرزق، أي لا يظن أنه يُرزق منه .
5 - تفيد الآيات المتقدمة، أن الممتثل لأمر الله والمتقي لما نهى الله عنه، يجعل الله له يسرًا فيما لحقه من عسر.
6- في قوله تعالى: { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا } أعيد التحريض هنا على التقوى مرة أخرى، ورتَّب عليه الوعد بما هو أعظم من الرزق، وتفريج الكربات، وذلك بتكفير السيئات، وتعظيم الأجر والثواب .
وقال محمد بن إسحاق: جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: له أسر ابني عوف. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله". وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه، فخرج، فإذا هو بناقة لهم فركبها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة. فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فإذا عوف قد ملأ الفناء إِبِلاً. فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فقال أبوه: قفا حتى آتي رسول الله عليه الصلاه والسلام فأسأله عنها. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنع بها ما أحببت، ونـزل: {...وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لكل شَيْءٍ قَدْرًا } ( الطلاق 2- 3)
وبعد: فإن التقوى مفتاح كل خير، وهي طريق إلى سعادة العبد في الدنيا والآخرة ، يكفيك في ذلك، قول الله عز وجل: { ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} . وقال تعالى { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} ، { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } ، { واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين } . وكان من دعائه : ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ) رواه مسلم