عفواً.. الرصيد لا يكفي!
:::::::::::::::::::::::::::
كلنا يحب المال، وبعضنا يرى فيه طريق الخلاص، والبعض الآخر يرى أنه كل شيء،
وأهم شيء وصنف أخير -وقليل أيضاً- يرى أن المال وسيلة وليس غاية، وأنه
ضروري للحياة والعيش الكريم؛ لكنه أضعف من أن يحمل بداخله صكّ السعادة
والنجاة.
حُب النفس للمال منقطع النظير، وتعلّق المرء منا بالثروة أمر مُشاهد في
دنيانا بكثرة، وعدد من يُصوّتون للمال كسبب أوّلي ورئيسي للسعادة، هم
الأغلبية الساحقة.
نعم.. إن مقداراً من المال ضروري للسعادة، والفقر بلاء استعاذ منه النبي
صلى الله عليه وسلم، ومَدّ اليد، وإسالة ماء الوجه في طلب الحاجة من هذا أو
ذاك مُرّ مرارة العلقم، وخذلان الأبناء -حيث اليد قصيرة عن الوفاء
بمتطلباتهم الضرورية- أمر قاتل لكل أبّ منا أو أمّ.
ومَن ادّعى بأنه يكره المال؛ فهو إما كذاب أَشِر أو مجنون يُرتجى شفاؤه!
فالمال نعمة من الله؛ خاصة إذا ما جاء من حلال وأُنفق في حلال.. وللأغنياء
على الفقراء فضل؛ فهم اليد المعطاءة، اليد العليا التي عناها النبي وأثنى
عليها في حديثه "اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى"، والعليا
هنا هي اليد المعطاءة المتصدقة الباذلة.
المال ليس شراً، إنه بوابة الكثيرين إلى الجنة.. قلّب صفحات التاريخ، وفتّش
عن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، صاحبة الثروة والمال، ابحث عن عثمان بن
عفان وعبدالرحمن بن عوف؛ لكن لا تنسَ وأنت تحصي ثروتهم، أن تتأمل في باب
إنفاقهم لتلك الثروة؛ لتدرك كيف كان الدرهم مطيّتهم إلى جنة عرضها السماوات
والأرض.
لقد ذهب فقراء الصحابة إلى النبي يشتكون من أن الأغنياء قد التهموا من كعكة
الخير بفضل جُودهم وصَدَقتهم؛ مما يجعلهم في صدارة المشهد الإيماني؛ فعن
أبي ذر رضي الله عنه أن بعضاً من أصحاب رسول الله قالوا للنبي: "يا رسول
الله ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يُصلّون كما نصلّي ويصومون كما نصوم ويتصدقون
بفضول أموالهم...".
إن المال يا أصدقائي عنصر من عناصر السعادة، ومُلهم لأبواب كثيرة للخير
والعطاء والبذل؛ لكنه -وهنا مربط الفرس- فخّ للتعاسة، قلّ من ينجو منه..
المال هو نفسه بوابتك للجحيم، والتعاسة، وخسران الدنيا والآخرة.. ولا عجب!!
تعيس من يرى المال هو السعادة، من يربط مؤشر الرضا والسرور بحسابه المصرفي؛
فيسعد عندما يرتفع، ويحزن إذا ما هبط المؤشر.. والغريب أن المال لدى هؤلاء
شديد الشَّبَه بماء البحر، لا يمكن أبداً أن يشعر من يزداد منه بالارتواء
أو الشبع.. إن الحصول على المزيد يفتح الشهية لامتلاك الأكثر والأكثر، ويجد
المرء نفسه في الدوامة التي لا تنتهي إلا بانقطاع الأجل.
آه من المال.. كم قَطَع من أرحام، وشرّد من أيتام، وأقام للطغيان دولة وصرحاً.
آه ثم آه.. كم من رجل خان من أجله، وكم من عاقل أصابته لوثة من جنون بسبب بريقه.
هذه المقابر سَلُوها كم حَوَت من أشخاص كان لهم مع المال جَوَلات تنقصها العفة والشرف والكرامة.
وتلك السجون تبتلع آلاف المغامرات كان المال بَطَلها الأول.
ما الحل إذن في لعبة المال المعقّدة؟ أخيْر أن أكون فقيراً أم غنياً؟ الراحة في المال أم في البُعد عنه؟
وتأتينا الإجابة من أستاذنا الكبير د. "عبد الكريم بكّار"؛ حيث يخبرنا بحلّ
لغز المال فيقول حفظه الله: "لا ريب في أن من الخير أن يكون لنا بعض
المال؛ لكن علينا ونحن نبحث عن المال ونجمعه أن نتأكد من أننا لن نفقد
الأشياء التي لا تُشترى بالمال، هذا إذا ما أردنا أن نكون أخياراً أو
سعداء".
وما أكثر تلك الأشياء التي لا يمكن أن تُشترى أبداً بالمال.
إن من أخطر مشاكل المال، أنه يغرّر بصاحبه؛ فيظن بأنه قادر بماله أن يشتري
العالم وما فيه.. يُخدع حينما تُفرش له السجادة الحمراء، وتخنع له بعض
الرقاب، ويتذلل تحت قدميه بعض المنافقين؛ فيرى في ماله عصاته السحرية التي
تفتح له الأبواب الموصدة؛ لكنه يُفجع حينما لا يشتري له مالُه بعض الصحة،
أو بعض الوفاء، أو بعض الطمأنينة.
يرى الحقيقة بوضوح عالٍ حينما لا يُعيد له ماله ولده الذي مات، أو شبابه
الذي ولّى، أو دفء الحب! يدوّي السؤال في ذهنه ألف مرة: "أينا أفقر: من لا
يملك مالاً.. أم من لا يملك إلا المال؟!".
والأفقر يا أصدقائي من يملك مالاً لا يعدّه عادّ؛ لكنه لا يُنجده وقت الأزمات،
وحين يحتاج إلى الحب والصداقة والأخوّة يسمع الصوت الصادم السخيف "عفواً
الرصيد.. لا يكفي!"
بقلم :
كريم الشاذلى
منقووووووووول