الحمد لله ولي النعمة والإفضال، العزيز الجبار الكبير المتعال، والصلاة والسلام على من حاز خصال الشرف جميعًا على جهة الكمال، وعلى آله وصحبه إلى يوم المآل.
وبعد، فإن آلاء الله في خلقه الجليل والدقيق لا تحصى، ولا حصر لعجائبها الشاغلة لأولي الألباب المتفكرين الخاشعين المخبتين، البالغين بتدبرها مراتبَ القربى، المؤثرين نعمى المآب، ومنازل الزلفى؛ القائلين -كلما دلهم على ربهم من بديع تدبيره منار-: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
ومما يستحق رعاية اللبيب من دلائل هذا الشأن العجيب ما اشتمل عليه وحيُ الله تعالى إلى النحل من بدائع الأسرار، وما يخرج من بطونها عسلا صافيًا فائقَ اللذاذة والإبشار؛ ضمنت بعضه هذه المقالة؛ راجيًا بها عفو ربي ورفقه ونواله.
من أسرار وحي الله تعالى إلى النحل:
قال الله عز وجل في محكم كتابه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
قال الحافظ ابن كثير: "والمراد بالوحي هنا الإلهام والهداية والإرشاد إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا تأوي إليها ومن الشجر ومما يعرشون، ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديدها ورصها بحيث لا يكون بينها خلل.
ثم أذن لها تعالى إذنًا قدريًّا تسخيريًّا أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة أي: سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة.
ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة؛ بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها، وتقيء العسل من فيها، وتبيض الفراخ من دبرها، ثم تصبح إلى مراعيها".
وهذا الذي كشف به الحافظ ابن كثير معانيَ هذه الآية الكريمة الحقيقة بالتفكر في أحوال النحل؛ قد فصله الإمامُ ابن القيم تفصيلاً بديعًا في كتابه النفيس الماتع "مفتاح دار السعادة"، وأورده إيراد الفقيه الخبير مشتملاً على عجائب تسع:
الأولى: كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها؛ إذ اتخذت بيوتها في هذه الأمكنة الثلاثة؛ في الجبال وفي الشجر وفي بيوت الناس حيث يعرشون؛ أي يبنون العروش وهي البيوت، فلا يرى للنحل بيتٌ غير هذه الثلاثة البتة.
الثانية:اجتهادها في صنعة العسل، وبناؤها البيوت المسدسة التي هي من أتم الأشكال وأحسنها استدارة وأحكمها صنعة، فإذا انضم بعضُها إلى بعض لم يكن بينها فرجة ولا خلل؛ كل هذا بغير مقياس ولا آلة ولا بيكار، وتلك من أثر صنع الله وإلهامه إياها وإيحائه إليها.
الثالثة: أكثر بيوتها في الجبال وهو البيت المقدم في الآية، ثم في الأشجار وهي من أكثر بيوتها، ومما يعرش الناس، وأقل بيوتها بينهم حيث يعرشون، وأما في الجبال والشجر فبيوت عظيمة يؤخذ منها من العسل الكثير جدًّا.
الرابعة: ما أداها إليه حسنُ الامتثال من اتخاذ البيوت أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمار ثم أوت إلى بيوتها؛ لأن ربها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولا، ثم بالأكل بعد ذلك، ثم إذا أكلت سلكت سبل ربها مذللة لا يستوعر عليها شيء؛ ترعى ثم تعود.
الخامسة: ومن عجيب شأنها أن لها أميرًا يسمى اليعسوب؛ لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة لأمره سامعة له مطيعة، وله عليها تكليف وأمر ونهى، وهي رعية له منقادة لأمره متبعة لرأيه؛ يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته؛ حتى أنها إذا أوت إلى بيوتها وقف على باب البيت؛ فلا يدع واحدة تزاحم الأخرى، ولا تتقدم عليها في العبور؛ بل تعبر بيوتها واحدةً بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم ولا تراكم؛ كما يفعل الأميرُ إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق؛ لا يجوزه إلا واحد واحد.
السادسة: ومن تدبر أحوالها وسياستها وهدايتها، واجتماع شملها، وانتظام أمرها، وتدبير ملكها، وتفويض كل عمل إلى واحد منها يتعجب منها كل العجب، ويعلم أن هذا ليس في مقدورها ولا هو من ذاتها؛ فإن هذه أعمال محكمة متقنة في غاية الإحكام والإتقان.
فإذا نظرت إلى العامل رأيته من أضعف خلق الله، وأجهله بنفسه وبحاله، وأعجزه عن القيام بمصلحته؛ فضلا عما يصدر عنه من الأمور العجيبة.
السابعة: ومن عجيب أمرها أن فيها أميرين لا يجتمعان في بيت واحد، ولا يتأمران على جمع واحد، بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا أحد الأميرين وقطعوه، واتفقوا على الأمير الواحد من غير معاداة بينهم ولا أذى من بعضهم لبعض؛ بل يصيرون يدًا واحدة وجندًا واحدًا.
الثامنة: ومن أعجب أمرها ما لا يهتدي إليه الناس ولا يعرفونه، وهو النتاج الذي يكون لها؛ هل هو على وجه الولادة والتوالد أو الاستحالة؟..؛ فقل من يعرف ذلك أو يفطن له...
وليس نتاجها على واحد من هذين الوجهين، وإنما نتاجها بأمر من أعجب العجيب؛ فإنها إذا ذهبت إلى المرعى أخذت تلك الأجزاء الصافية التي على الورق من الورد والزهر والحشيش وغيره؛ وهي الطل؛ فتمصها، وذلك مادة العسل، ثم إنها تكبس الأجزاء المنعقدة على وجه الورقة وتعقدها على رجلها كالعدسة، فتملأ بها المسدسات الفارغة من العسل، ثم يقوم يعسوبها على بيته مبتدئًا منه فينفخ فيه، ثم يطوف على تلك البيوت بيتًا بيتًا؛ وينفخ فيها كلها فتدب فيها الحياة بإذن الله عز وجل، فتتحرك وتخرج طيورًا بإذن الله، وتلك إحدى الآيات والعجائب التي قل من يتفطن لها، وهذا كله من ثمرة ذلك الوحي الإلهي؛ أفادها وأكسبها هذا التدبير، والسفر، والمعاش، والبناء، والنتاج.
فََسَل المعطِّل:
من الذي أوحى إليها أمرها وجعل ما جعل في طباعها، ومن الذي سهل لها سبله ذللا منقادة؛ لا تستعصي عليها ولا تستوعرها، ولا تضل عنها على بعدها، ومن الذي هداها لشأنها.
ومن الذي أنزل لها من الطل ما إذا جنته ردته عسلا صافيًا مختلفًا ألوانه في غاية الحلاوة، واللذاذة، والمنفعة؛ من بين أبيض يرى فيه الوجه أعظم من رؤيته في المرآة؛ وَسَمَه من جاء به وقال: هذا أفخر ما يعرف الناس من العسل وأصفاه وأطيبه، فإذا طعمه ألذ شيء يكون من الحلوى، ومن بين أحمر، وأخضر، ومورد، وأسود، وأشقر، وغير ذلك من الألوان والطعوم المختلفة فيه؛ بحسب مراعيه ومادتها.
التاسعة: وإذا تأملت ما فيه من المنافع والشفاء، ودخوله في غالب الأدوية حتى كان المتقدمون لا يعرفون السكر، ولا هو مذكور في كتبهم أصلا، وإنما كان الذي يستعملونه في الأدوية هو العسل وهو المذكور في كتب القوم.
ولعمر الله لهو أنفع من السكر وأجدى وأجلى للأخلاط وأقمع لها وأذهب لضررها، وأقوى للمعدة، وأشد تفريحًا للنفس وتقوية للأرواح وتنفيذًا للدواء، وإعانة له على استخراج الداء من أعماق البدن.
ولهذا لم يجئ في شيء من الحديث قط ذكر السكر، ولا كانوا يعرفونه أصلا، ولو عدم من العالم لما احتاج إليه، ولو عدم العسل لاشتدت الحاجة إليه، وإنما غلب على بعض المدن استعمال السكر حتى هجروا العسل، واستطابوه عليه، ورأوه أقل حدة وحرارة منه، ولم يعلموا أن من منافع العسل ما فيه من الحدة والحرارة، فإذا لم يوافق من يستعمله كسرها بمقابلها فيصير أنفع له من السكر.
ومتى رأيت السكر يجلو بلغمًا ويذيب خلطًا أو يشفي من داء؟..، وإنما غايته بعض التنفيذ للدواء إلى العروق للطافته وحلاوته.
وأما الشفاء الحاصل من العسل فقد حرمه الله كثيرًا من الناس حتى صاروا يذمونه، ويخشون غائلته من حرارته وحدته، ولا ريب أن كونه شفاء، وكون القرآن شفاء، والصلاة شفاء، وذكر الله، والإقبال عليه شفاء أمر لا يعم الطبائع والأنفس، فهذا كتاب الله؛ هو الشفاء النافع، وهو أعظم الشفاء، وما أقل المستشفين به، بل لا يزيد الطبائع الرديئة إلا رداءة، ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا.
وكذلك ذكر الله والإقبال عليه والإنابة إليه والفزع إلى الصلاة؛ كم قد شفي به من عليل، وكم قد عوفي به من مريض، وكم قام مقام كثير من الأدوية التي لا تبلغ قريبًا من مبلغه في الشفاء"
ولا يخفى رجوع الضمير في (فيه) من قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] على الأصح إلى الشراب؛ لأن الكلام إنما سيق لأجله؛ وقد وجه ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله توجيها بديعًا بقوله: (الصحيح رجوعه إلى الشراب، وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والأكثرين؛ فإنه هو المذكور، والكلام سيق لأجله، ولا ذكر للقرآن في الآية، وهذا الحديث الصحيح؛ وهو قوله: (صدق الله)؛ كالصريح فيه، والله أعلم) .
قال الحافظ ابن كثير: "وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامِهِ، والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع وهو العسل؛ وهو من أطيب الأشياء- لآيةً لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها، ومسخرها وميسرها، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم".
يتبع