وهذا الجاحظ يقول في كتابه( الحيوان ):”ولد العنكبوت يقوى على النسج ساعة يولد، وذلك من غير تلقين، ولا تعليم. وأول ما يولد دودًا صغارًا، ثم يتغير ويصير عنكبوتًا، وهو يطاول في السِّفاد. ومنه ما هو كبير، ونسجه رديء. ومنه ما هو دقيق، وهو يمدُّ السُّدى، ثم يعمل اللحمة، ويبتدىء من الوسط، ويهيِّىء موضعًا لما يصيده، يكون له كالخزانة. والأنثى منه هي التي تنسج، والذكر يحل وينقض“.
لاحظ قوله:”والأنثى منه هي التي تنسج، والذكر يحل وينقض“، وقول ابن عبد ربه:”وليس ينسج من العناكب إلا الأنثى“.وإن كانت بعض الدراسات قد أشارت إلى أن ذكور العنكبوت تغزل الخيوط، فإنها لم تغزلها؛ لتبني بها بيتًا، وإنما تغزلها لأغراض أخرى.
جاء في الموسوعة العربية العالمية:”تغزل جميع العناكب الخيوط؛ لكن بعض أنواعها لا تبني شراكًا. فعلى سبيل المثاليغزلالعنكبوتالمسلح خيطًا واحدًا في نهايته قطرة لزجةمن الحرير، فعندما تطير حشرة بالقرب منه، يقذفالعنكبوتهذا الخيط تجاهها؛ لتلتصق الحشرة بطرفه اللزج.
ويصنف العلماءُ العناكب إلىعناكب حقيقية،وعناكب الرتيلا،بناءًعلى فروق معينة بأجسامها، مثل طريقة توجيه الأنياب وحركتها. ويمكن وضع العناكب كذلك في مجموعات تبعًا لطريقة حياتها. فهناكعناكب غازلة للنسيج. أي: التي تغزلأنسجة لاصطياد الحشرات. وعناكب صيادة.أي: التي تجري خلف الحشرات، أو تختبىءمترصدة لها.
ويقوم ذكرالعنكبوتقبل التزاوج بغزل منصة من خيوطالحرير تسمَّى:النسيج النطفي؛حيث يصب عليها قطرةً من النطاف(الحيوانات المنوية)، يخرجها من منطقته البطنية، ثم يقوم بملء طرفي الرجلين الملمسيَّتيْنبسائله المنوي؛ ليستعملهما في نقل حييناته المنوية إلى جسم الأنثى أثناء التزاوج. بعد ذلك تختزن الأنثى الحيينات المنوية في جسمها، وعندما تضع بيضها بعد عدة أسابيع أو أشهر، يخصب ذلك البيض بتلك الحيوانات المنوية، التي خزنتها في جسمها بعد التزاوج “.(1)
والذكر البالغ في عناكب( الأرملة السوداء ) بعد أن يبنى خيوطًا حريرية، يخرج من جسمه مادة التزاوج، ويلصقها على هذا النسيج، وعندما يرى الأنثى، يبدأ بتحريك يديه، وتبادله الأنثى الحركات نفسها، ثم يلتقط بيديه مادة التزاوج؛ ليضعها تحت جانبها، ثم يتجه للجانب الآخر؛ ليعمل نفس الشيء، الذي يكرره عدة مرات.
وليس في ذلك كله ما يدل على أن ذكر العنكبوت يبني البيت كالأنثى؛ كما ادَّعى ذلك بعض الحاقدين على الإسلام، متَّخذًا من بعض الأقوال السابقة دليلاً؛ ليؤيِّد به ادعاءه، وليثبت بذلك- كما قال- خطأ القرآن وقائله.. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الإعجاز في هذه العبارة، لم يكن في استعمال القرآن للفظ العنكبوت كمفرد يدل على الأنثى؛ لأن القرآن الكريم في هذه الآية- كما قالت الدكتورة بنت الشاطىء- يجرى على لغة العرب، الذين أنثوا لفظ العنكبوت من قديم جاهليتهم الوثنية؛ كما أنثوا مفرد النمل، والنحل، والدود، فلم يقولوا فى الواحد منها إلا نملة، ونحلة، ودودة، وهو تأنيث لغوى، لا علاقة له بالتأنيث البيولوجي؛ وإنما الإعجاز في الآية الكريمة هو في إسناد اتخاذ بيت العنكبوت إلى الأنثى دون الذكر في قوله تعالى:﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾. وهذا ما أغفلته الدكتورة بنت الشاطىء، وتجاهله غيرها من منكري الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؛ وذلك في ردهم على القائلين بوجود الإعجاز في هذه العبارة من الآية الكريمة.
ومثل إسناد اتخاذ بيت العنكبوت إلى الأنثى دون الذكر إسناد اتِّخاذ بيت النحل إلى الأنثى؛ كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله:﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾(النحل:68).
فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجه للأنثى دون الذكر، وهي النحلة الشغالة، التي تجمع الرحيق، وتصنعه عسلاً، بدليل قوله تعالى عقب ذلك:﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ﴾(النحل:69). أما ذكور النحل فيوجد منهاعدد قليل، يلقح أحدها الملكة قبل أن تضع البيض، ثم يموت.
ثم قال تعالى:﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾فأخبر أن بيت العنكبوتهو أوهن البيوت على الإطلاق. وهو جملة استئنافية خبرية، جيء بها لبيان صفة العنكبوت، التي يدور عليها أمر التشبيه. ثم قيد الجملة بالعبارة الشرطية﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾.
وأيُّ معنًى- كما قيل- أبلغ من هذا المعنى، الذي أكَّده الله تعالى من ستة أوجه؟فأدخل﴿ إِنَّ ﴾، التي تفيد معنى التأكيد،وأتى ب{ أفعل } التفضيل﴿ أَوْهَنَ ﴾،وبناه من{ الوهن }، وأضافه إلى الجمع﴿ الْبُيُوتِ ﴾،وعرف الجمع باللام، التي تفيد معنى الاستغراق، وأتى في خبر﴿وَإِنَّ﴾ باللام﴿ لَبَيْتُ ﴾، فأفاد بذلك أن أوهن البيوت، إذا استقريتها بيتًا بيتًا هو بيت العنكبوت. أي: لا بيت أوهن منه.
ولم تزل هذه الآية محيِّرة للعلماء والباحثين, قديمًا وحديثًا، فالقرآن الكريم قد أخبر أن أوهن البيوت على الإطلاق هو بيت العنكبوت، ثم قيَّد هذا الخبر بقوله تعالى:﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾. والعلم الحديث قد أثبت أن بيت العنكبوت منسوج من أقوى الخيوط، التي تستطيع مقاومة الرياح العاتية، ويمسك في نسجه فرائس العنكبوت، من الحشرات، التي هي أكبر من العنكبوت دون أن يتخرَّق. وخيوطه دقيقة جدًا، يبلغ سمك الخيط الواحد منها في المتوسط واحدًا من المليون من البوصة المربعة, أو جزءًا من أربعة آلاف جزء من سمك الشعرة العادية في رأس الإنسان، ويتمدد إلى خمسة أضعاف طوله قبل أن ينقطع. وهو أقوى من الفولاذ المعدني العادي بعشرين مرة، ومن الألمنيوم بتسع وعشرين مرة،ولا يفوقه قوة سوى الكوارتز المصهور، وتبلغ قوة احتماله ثلاثمائة ألف رطل للبوصة المربعة. فإذا قُدِّر وجود حبل سميك بحجم إصبع الإبهام من خيوط العنكبوت، فيُمْكِنه حَمل طائرة ركاب كبيرة بكل سهولة. ولذلك أطلق عليه العلماء اسمالفولاذ الحيوي )، أو( الفولاذ البيولوجي )، أو( البيوصلب ). وهذه الحقيقة يستطيع الإنسان أن يكتشفها بنفسه؛ حيث يمكنه بسهولة إزاحة بيت العنكبوت بسبب وزنه الخفيف، ولكن يصعب عليه قطعه، أو تغيير شكله الهندسي الدقيق!
قال الدكتور محمد الفارأستاذ ورئيس شعبة الكيمياء الحيوية بعلوم المنصورة في مقال له نشر في جريدة الأهرام:” نجح العلماء أخيرًا في استخدام طرق الهندسة الوراثية لإنتاج خيوط العنكبوت عن طريق جينات مستخرجة من العنكبوت نفسه، وهي أقوى من خيوط الحرير. ولذلك فإنهذه الطريقة ستتيح لهم التوسع في استخدام تلك الخيوط العنكبوتية لصناعة سترات واقية من الرصاص من نسيجه, وخيوط جراحية بمواصفات جيدة “.
فهل كان القرآن الكريم حين أخبر أن بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق- يجهل هذه الحقائق، التي كشف عنها العلم مؤخرًا عن طبيعة هذا الخيط، الذي نسج منه بيت العنكبوت؛ كما يدعي أعداء القرآن؟ وهل كان الكفار والمشركون يجهلون أيام نزول القرآن الكريم أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت، أم كانوا يعلمون ذلك؟ وإذا كانوا يعلمون، فلم نفى الله سبحانه وتعالى عنهم علم ذلك؟
أما السؤال الأول فلا نجد في كتب التفسير له جوابًا. وأما السؤال الثاني فأجابوا عنه بأنهم كانوا يعلمون أن بيت العنكبوت هو أوهن البيوت، وأنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت؛ وإنما نفى علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلو علموا ذلك، لما فعلوه؛ ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًّا وقوة، فكان الأمر بخلاف ما ظنوا.
ولهذا نجد علماء التفسير يذهبون إلى أن قوله تعالى:﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾جملة حالية؛ لأنه من تتمة التشبيه. أو جملة اعتراضية بين قوله:﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾، وقوله:﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾. وإلى كونه جملة اعتراضية ذهب الزمخشري. وإلى كونه جملة حالية ذهب الطيبي. وقال صاحب الكَشْف: كلام الزمخشري إلى كونه اعتراضية أقرب.
وعلى القول بأنه جملة اعتراضية يكون التقدير هكذا: كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا- لو كانوا يعلمون- وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت.
وعليه فإن﴿ لَوْ ﴾- كما قالوا- شرطية متعلقة بقوله تعالى:﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَكَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾،وجوابها محذوف، تقديره: لو كانوا يعلمون شيئًا من الأشياء، لعلموا أن هذا مثلهم. أو: لو كانوا يعلمون أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن، لما اتخذوه دينًا. أو: لو كانوا يعلمون وهن الأوثان، لما اتخذوها أولياء من دون الله تعالى.
وقد ذكرنا من قبل أن هذه الجملة استئنافية، جيء بها لبيان صفة العنكبوت، التي يدور عليها أمر التشبيه، وهي جملة خبرية مقيَّدة بالعبارة الشرطية:﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾. وهذه العبارة الشرطية تنفي صراحة علمهم بأن أوهن بيت على الإطلاق هو بيت العنكبوت. أما نفي علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا فهو مبنيٌّ على نفي علمهم بأن أوهن البيوت لبيت العنكبوت. ويدل عليه تشبيه الأول بالثاني.
ويدل عليه أيضًا أن الله تعالى قال:﴿ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾، فأتى بأداة الشرط:﴿ لَوْ ﴾المتضمنة معنى التمني؛ لينفي بذلك علمهم مع تمني حصول ذلك العلم منهم. ونحو ذلك قوله تعالى:﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾(العنكبوت:64).
لاحظ كيف جاء قوله تعالى:﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾مؤكَّدًا ب﴿إِنَّ﴾، وباللام في خبرها﴿ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾، ثم قيِّد بالعبارة الشرطية، التي تنفي علمهم بذلك، مع تمني حصول ذلك العلم منهم؛ وهي قوله تعالى:﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾. ولكن هيهات، هيهات أن يعلموا ذلك. ولو جاء من يعلمهم به، لظلوا في ظلمات جهلهم غارقين.. ومثل هذا الأسلوب في القرآن كثير لمن أراد التأمل والتدبر.
ويبيِّن ذلك أن الأصل في﴿ لَوْ ﴾أنها أداة تمن، ثم نقلت إلى الشرط؛ وذلك من باب تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد؛ ومن خواصِّها فرض ما ليس بواقع واقعًا، وتستعمل فيما لا يُتَوقَّع حدوثُه، وفيما يمتنع حدوثه، أو فيما هو محال، أو من قبيل المحال، سواء كانت في عبارة شرطية؛ كقوله تعالى:﴿وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾(التوبة:81). أو كانت في جملة شرطية تامة؛ كقوله تعالى:﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾(الأنفال:63).
وإذ ثبت بما تقدم أنهم كانوا لا يعلمون أن بيت العنكبوت أوهن البيوت؛ كما أخبر الله تعالى عنهم، فهل كانوا يجهلون طبيعة هذا البيت، من حيث قوة نسجه؟ وهل كان القرآن الكريم يجهل ذلك أيضًا؛ كما يدعي أعداء الإسلام؟
أما الجواب عن السؤال الأول فقد روي عن سكان جزر السلَمون أنهم كانوا يقومون قديمًا بصنع شباك صيد الأسماك من خيوط العنكبوت..فإذا ثبت ذلك عنهم، فمن أين أتاهم علم ذلك، وكيف علموا به؟!
وأما الجواب عن السؤال الثاني فنقول: لو كان القرآن الكريم يجهل طبيعة بيت العنكبوت، لما أخبر عنه على سبيل التأكيد بأنه أوهن بيت على الإطلاق، ثم قيَّده بنفي علمهم بذلك.
ويدل على ذلك أن قوله تعالى:﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾لا يكون إلا جوابًا عن جحود جاحد. فهو جواب من قال: ما بيت العنكبوت بأوهن البيوت. ألا ترى أن قولك: إن زيدًا لعالم، جواب من قال: ما زيد بعالم. وإن محمدًا لرسول الله، جواب من قال: ما محمد برسول الله. وعلى هذا جاء قوله تعالى:﴿إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾(المنافقون:1).
ومما تجدر الإشارة إليه أن القرآن الكريم ليس هو كتاب علم، حتى يفصل القول في شرح هذه الحقائق؛ كما فصل العلم القول فيها؛ وإنما هو كتاب هداية قبل كل شيء. ولهذا يكتفي بالإشارة إليها إشارات فيها العبرة لمن أراد أن يعتبر، ولا يخفى ذلك إلا على من طمس الله على بصره، وأعمى بصيرته﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(الحج:46). فأنى لأولئك الصم البكم العمي أن يفهموا كلام الله جل وعلا؟!
والسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا هو: كيف يكون بيت العنكبوت أوهن البيوت على الإطلاق، وهو منسوج من أقوى الخيوط على الإطلاق، وأكثرها مرونة؟ وكيف يجتمع في منشأة واحدة الحد الأدنى من الوهن، والحد الأقصى منالقوة والمرونة!؟
وأول ما ينبغي الإشارة إليه قبل الإجابة عن ذلكهو أن الآية الكريمة نصَّت على وهن بيت العنكبوت، لا على وهن الخيط، الذي نسج منه. فلم يقل سبحانه وتعالى:{إن أوهن الخيوط لخيط العنكبوت }؛ وإنما قال:﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ﴾، وهي إشارة دقيقة، لا تخفى إلا على الجاهلين من أولئك الحاقدين، الذين اتهموا القرآن الكريم بالخطأ، وطعنوا في إعجازه، حين زعموا زورًا وبهتانًا أن” العلم يقول عن خيوط العنكبوت: إنها قوية، والقرآن يقول: إنها ضعيفة؛ لأن القرآن، وكاتب القرآن لا يعرف الفولاذ، ولا يدرك طبيعة خيط العنكبوت “.﴿ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾(التوبة:30).
وأنت إذا تأملت الآية الكريمة حق تأملها على ضوء ما تقدم، تبيَّن لك أن المعنى المراد منها: إن أوهن البيوت لبيت العنكبوت رغم قوة ومتانة ومرونة خيوطه، التي نسج منها.. فالوهن الذي أخبر عنه القرآن الكريم ليس في خيط العنكبوت؛ وإنما هو في البيت، الذي نسج من ذلك الخيط.
قال الدكتور محمد الفارفي مقاله، الذي أشرنا إليه سابقًا:” والعجيب أن من هذه الخيوط( القوية ) تصنع بيوت العنكبوت( الضعيفة ) الواهية والواهنة. وإلى هذا يشير المولى عز وجل في قوله تعالى:﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾.
والمعني العام: أنه من يتوكل على غير الله, طالبًا المناصرة والمؤازرة, فإنه بذلك يختار، ويتخذ منهجًا واهيًا، وليس قويًّا؛ كما قد يتصور, فالعنكبوت مثلاً تنسج بيتها بنفسها, وتعتمد بالطبع على خيوطها القوية- كما أشرنا- وتتصور أنها بذلك قد صنعت بيتًا قويًّا؛ ولكنه في الحقيقة واهن وضعيف في الهواء. فكذلك هو الحال مع من يولي أمره لغير الله, ويتصور أن هؤلاء الأولياء بمجموعهم قد ينفعونه. فهذا المنهج واهن.
والعبرة والعظة والإعجاز في هذا التشبيه القرآني نتلمسه في ضوء ما توصل إليه العلماء, فبيت العنكبوت بخيوطه القوية, يسهل إطاحته؛ ولكن إذا استعملت تلك الخيوط العنكبوتية في ظروف أخرى, وبمنهج آخر, فإنها تكون نسيجًا قويًّا جدًّا, وشديدًا في متانته، ويصلح لصد الرصاص.
وللتوضيح, فالجرافيت والألماس, كلاهما من الكربون, وعلى الرغم من ذلك فلهما خواص فيزيائية وشكلية متضادة تمامًا. فالأول, أسود ولين ومعتم وضعيف، ويسهل كسره. أما الثاني فهو شفاف ونقي، ومن أصلد وأقوى المعادن. والأول يتحول للثاني تحت ظروف قاسية من الضغط والحرارة، وإذا تغيرت الظروف حوله.. فالعبرة بالمنهج والبيئة.. وسبحان الله“.
وقال تعالى:﴿أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ﴾، ولم يقل:{ أضعف البيوت }؛ وذلك لأن الضعف هو من فعل الله تعالى؛ كما أن القوة كذلك. تقول: خلقه الله ضعيفًا، أو خلقه قويًا. ويكون في الجسد والرأي والعقل. قال تعالى:﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾(الروم:54).وقال تعالى:﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾(النساء:28).
أما الوهن فهو من فعل المخلوق، وهو أن يفعل فعل الضعيف.تقول: وهن في الأمر يهن وهنًا، وهو واهن، إذا أخذ فيه أخذ الضعيف. والأمر موهون؛ ومنه قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾(آل عمران:139). أي: لا تفعلوا أفعال الضعفاء، وأنتم أقوياء على ما تطلبونه بتذليل الله إياه لكم.
ويدل على صحة ما ذكرنا أنه لا يقال: خلقه الله واهنًا؛ كما يقال: خلقه الله ضعيفًا. وقيل: الوهن: الضعف في العمل والأمر، وكذلك في العظم ونحوه؛ كما في قوله تعالى:﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾(مريم:4). ويجوز أن يقال: إن الوهن هو انكسار الحد والخوف ونحوه، والضعف نقصان القوة. ويدل عليه قول الله تعالى في وصف المؤمنين المجاهدين:﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ ﴾(آل عمران:146)، إشارة إلى نفي الحالتين عنهم في الجهاد. وقيل: الوهن هو ضعف من حيث الخَلْق، والخُلُق.
ويتلخص من ذلك كله: أن الوهن هو من فعل المخلوق، ويكون مادِّيَّا، ومعنويًّا. وهذا ما ينبغي أن يفهم من الوهن المنصوص عليه في الآية الكريمة.
أما وهن{ بيت العنكبوت }من الناحية المادية فلأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة تتشابك مع بعضها البعض تاركة مسافاتٍ بيْنِيَّة كبيرة في أغلب الأحيان؛ ولذلك فهو لا يقي حرًّ, ولا بردًا, ولا يحدث ظلاً كافيًا, ولا يقي من مطر هاطل, ولا من رياح عاصفة, ولا من أخطار المهاجمين. ولهذا يغزل العنكبوت خيطًا من الحرير يُسمَّى: خيط الجذب، وخيطالحياة؛ وذلك لأنه يستعمله- غالبًا- في الهروب من الأعداء.فإذا أحسالعنكبوتبخطر، يهدد نسيجه، فإنه يهرب منالنسيج بوساطة خيط الجذب؛ ليختبئ بين الأعشاب، أو يبقى متعلقًا به في الهواء، حتىيزول الخطر، ثم يعود مرة أخرى إلى نسيجه عبر خيط الجذب.
ومن أخصِّ خصائص البيت وأوصافه أنه مأوى لصاحبه، يقيه من برد الشتاء، وحر الصيف، ويحميه من أذى الكائنات، التي هي أقوى منه. وهذا كله لا يتوفر في بيت العنكبوتعلى الرغم من الإعجاز في بنائه. ولا يخفى ذلك إلا على جاهل، ولا ينكره إلا مكابر، أو حاقد.
وأما وهنه من الناحية المعنوية فلأنه بيت محروم من معاني السكن والمودة والرحمة، التي يقوم على أساسها كل بيت سعيد.ولهذا عبَّر القرآن الكريم عنه بالبيت، لا بالمسكن؛ وذلك خلافًا لبيت النمل، الذي عبَّر عنه بالمسكن؛ كما في قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(النمل:18).
وإنما سمِّيَ مسكنًا؛ لأنه سكن لصاحبه، وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله:﴿وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ﴾(النحل:80)، ونحو ذلك قوله تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾(الروم:21).
وقد ثبت- كما تقدم- أن بيت العنكبوت لا يجير آويًا، ولا يريح ثاويًا؛ لأنه بيت لا طمأنينة فيه، لا لأصحابه، ولا لزواره؛ لأنه بيت لم يعَدَّ في الأصل للسكن؛ وإنما أُعدَِّ ليكون مصيدة، يقع في حبائله اللزجة كل من فكر بزيارته من الحشرات الطائرة المخدوعة.
جاء في الموسوعة العربية العالمية:” وتقبع بعض أنواعالعناكب غازلة النسيج الدائريفي وسط النسيج، مترقبةلفرائسها، بينما تلصق أنواع أخرىخيطًا إشاريًّاوسط النسيج. ويختبىءالعنكبوتفي عشه قرب النسيج، ممسكًا بالخيط الإشاري. وعندما تسقط حشرة في النسيج، يهتز الخيط الإشاري منبهًاالعنكبوت، الذي يندفع إلى خارج عشه بسرعة كبيرة، للإمساكبالحشرة. وتنسج تلك العناكب نسيجًا دائريًا كل ليلة، يستغرق بناؤه ما يقرب من ساعة، وتأكل النسيج القديم للمحافظة على الحرير. بينما تصلح أنواع أخرى من تلك العناكب، أو تغير أي جزء تالف من نسيجها “.
ومن العناكب ما يسمَّى بالعنكبوت الصيادة الرمادية، وهي من العناكب، التي تخرج ليلاً للصيد؛ كما تفعل الشَبَث والعقرب. أما الأنواع الأخرى من العناكب فهي لا تبرح مكانها، ولكنها تنتظر وتترقب؛ لكي يقع صيدها في شباكها، التي تنسجها، وتعيش بالقرب منها.
أما العنكبوت الصيادة البنيَّة فتعيش في جحور تحفرها بنفسها، أو تختبئ في الشقوق الصخرية، وتعيش حياة انفرادية، وتصيد بنفسها الحشرات، ولا تتردد في أكل العناكب، التي من نفس جنسها، وهي شرسة الطباع، قوية الافتراس. وعندما تصيد فريستها، تقطعها بعض القطع، أو تفتح فيها فتحات، ثم تمتص السوائل، التي بداخلها؛ لتتركها ناشفة من الداخل.
ومن اللافت في موضوع العناكب كلها أن الحشرات الأخرى لا تسلم من شرها ساعة من ليل أو نهار، فهي دائمة الترصد لفرائسها في ورديات نهارية وليلية. وتبدأ العناكب الليلية صيدها بعد انتهاء عمل العناكب النهارية، وقد ابتكرت العناكب طرقًا مختلفةً لاقتناص فرائسها، فبعضها ينقض على فريسته انقضاضًا مباشرًا؛ إلا أن أشهر طرق الاقتناص لديها يتم عن طريق ما تنصبه من شباك، تتخايل للفرائس؛ وكأنها زينة تلمع أمامها، فإذا ما اقتربت منها، وقعت فيها، وكانت سببًا في هلاكها!!..
وبعد اكتمال نمو ذكر العنكبوت، يبدأ في البحث عن شريكة للتزاوج، وأحيانا يفقد الذكر حياته، إذا ما اعتقدت الأنثى أنه فريسة، فتلتهمه. وتفضل ذكور معظم العناكب القيام بأنشطة الاستمالة، التي يتم من خلالها الكشف عن هويتها لجذب الإناث. وبعضها الآخر يقوم بهز خيوط نسيج الأنثى، بينما يقوم بعض ذكور العناكب الصيَّادة بتحريك أرجلها وأجسامها في رقصة استمالة غير عادية. وتستخدم ذكور العناكب القافزة الشعر الملون على أرجلها للفت انتباه الأنثى، كما تقدم ذكور عناكب النسيج الحاضن هدية للأنثى قبل الزواج، تتمثل في ذبابة كان قد اصطادها.
ولا تقوم الأنثى بقتل الذكر وأكله بعد مجامعته؛ كما كان يعتقد سابقًا، فقد أثبتت إحدى الدراسات أن العناكب تأكل الذكر، الذي يبدو شكله غريبًا عليها، إذا ما حاول الاقتراب منها، ولا تستجيب إلا للذكر، الذي يبدو مألوفًا لديها. ومع ذلك فكثيرًا ما يعمد الذكر إلى الهروب بعد أن يلقح أنثاه خوفًا على نفسه من افتراس الأنثىله؛ لأنها أكبر منه حجمًا، وأكثر شراسة.
وتقوم إناث كثير من أنواع العناكب بوضع بيضها في كيس أبيض ورَقيٍّ، تصنعه من خيوطها، وتجره خلفها أينما ذهبت. وفي بعض الأنواع تموت الأنثى بعد إتمام إخصاب بيضها. وفي بعض الأنواع الأخرى تمكث الأنثى فوق البيض حتى يفقس داخل الكيس.
وعندما يفقس البيض، تخرج صغار العنكبوت، فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض, فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام، أو من أجل المكان، أو من أجلهما معًا، فيقتل الأخ أخاه وأخته, وتقتل الأخت أختها وأخاها؛ حتى تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العناكب، التي تنسلخ من جلدها, وتمزق جدار كيس البيض؛ لتخرج الواحدة تلو الأخرى, والواحد تلو الآخر بذكريات تعيسة, وينتشر الجميع في البيئة المحيطة، وتبدأ كل أنثى في بناء بيتها, ويهلك في الطريق إلى ذلك من يهلك من هذه العناكب. ومن ينجو منها، يكرر نفس المأساة، التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية وانعدامًا لأواصر القربى.
وقد يحدث أن تتقاتل أنثيان مع بعضهما البعض، فتحمل القاتلة صغار المقتولة على ظهرها، أو أن الصغار تترك الأم المقتولة، وتتسلق ظهر الأنثى القاتلة، وتظل متعلقة بها إلى أن تكبر، وتصبح قادرة على العيش وحدها.
وقالت الدكتورة هاموند:” العنكبوت يأكل بعضه البعض. إذا ما وضعت عنكبوتين في قفص، فسيأكل واحد منهما الآخر“.
وقال الدكتور جفري تيرنر رئيس شركة نكسيا للتكنولوجيا الحيوية:”إن الناس بدؤوا يتساءلون عن إمكانية إنتاج المادة البروتينية تمامًا؛ كما يتم مع دودة القز لإنتاج الحرير. لكن المشكلة هي أن العناكب من الحشرات، التي يصعب السيطرة عليها، وأقلمتها على الاستزراع، وهي حشرات فردية وعدوانية “.
ويضيف الدكتور جفري قائلاً:”عندما تضع عشرة آلاف منها في حجرة واحدة، ستجد بعد فترة أن واحدًا قبيحًا قويًّا منها هو الذي يبقي، ويموت الكل من شدة المنافسة والصراع فيما بينها “.
وقد سبق أن ذكرنا أن العنكبوت الصيادة البنِّيَّة تعيش في جحور، تحفرها بنفسها، أو تختبئ في الشقوق الصخرية، وتعيش حياة انفرادية، وتصيد الحشرات بنفسها، ولا تتردد في أكل العناكب، التي من نفس جنسها، وهي شرسة الطباع قوية الافتراس. وفي بعض أنواع العناكب تلتهم الأنثى صغارها دون رحمة.
هذا هو بيت العنكبوت، يبدو لمن تأمله أدنى تأمل أنه أوهن البيوت؛ كما وصفه القرآن الكريم. بيت يفتقد العلاقات الأسرية، والعاطفية الحميمة، ويقوم على المصالح والمنافع المادية الدنيوية المؤقتة. فإذا انتفت المصالح, وانتهت المنافع, انقلب إلى مذبحة، وخيم عليه الخوف والتربص والقتل. وحتى بالمقارنة مع عالم الحشرات يعد بيت العنكبوت أوهن البيوت من الناحية الأسرية، وأكثرهاأنانية وشراسة.
ثم بعد هذا كله نجد من أعداء الإسلام والموالين لهم من يتشدق ويقول: بيت العنكبوت من أقوى البيوت، والقرآن مخطىء حين وصفه بأنه أوهن البيوت. وهو يقول ذلك مع اعترافه بأن بيت العنكبوت مصيدة، يتصيد الفرائس من خلاله، ويعيش عليها. ولم يدر أن كونه مصيدة، يوقع الحشرات في حبائله اللزجة، التي تتخايل لها؛ وكأنها زينة تلمع أمامها، يكفي لأن يجعل من هذا البيت أوهى البيوت على الإطلاق من الناحية الاجتماعية والأخلاقية، ولم يدر أيضًا أن هذا الوصف الدقيق لهذا البيت؛ إنما جاء في سياق ضرب المثل لمن يتخذ من دون الله أولياء؛ حيث الصلات واهية، والروابط متقطعة، والغدر وارد في أيلحظة!!
هذه هي الحقيقة، التي غفل عنها أولئك الذين اتخذوا من أعداء الله أولياء من دون الله، يستعينون بهم ويلوذون إليهم في رغب وفي رهب، ويتوجهون إليهم بمخاوفهم ورغائبهم, ويخشونهم، ويفزعون منهم, ويترضونهم؛ ليكفوا عن أنفسهم أذاهم, أو يضمنوا لأنفسهم حماهم، فكان مثلهم في ذلك﴿كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾.
وإنهلتصوير عجيب صادق لحقيقة هؤلاء العناكب، وحقيقة أوليائهم، الذين يلوذون إليهم، ويحتمون بحماهم في هذا الوجود. الحقيقة التي غفل عنها أكثر الناس، فساء تقديرهم لجميع القيم, وفسد تصورهم لجميع الارتباطات, واختلت فيأيديهمجميع الموازين، فما عرفوا إلى أين يتوجهون.. ماذا يأخذون، وماذا يدعون?
وعندئذ خدعتهم تلك القوى الظاهرة، التي يتمتع بها أولياؤهم، فداروا حولها, وتهافتوا عليها؛ كما يدور الفراش على المصباح, ويتهافت على النار،ونسَوْاالقوة الوحيدة، التي تخلق سائر القوى الصغيرة, وتملكها, وتمنحها,وتوجهها،وتسخرها كما تريد، وحيثما تريد، ونسَوْا أن الالتجاء إلى تلك القوى، سواءكانتفي أيدي الأفراد, أو الجماعات, أو الدول؛ كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت.. هذه الحشرة الضعيفة الرخوة الواهنة، التي لا حماية لها من تكوينها الرخو, ولا وقايةلهامن بيتها الواهن، على الرَّغم من خيوطه القوية. وليسهنالك من حماية إلا حماية الله, وإلا حماه, وإلا ركنه القوي الركين.
فهم من جهة عناكب واهنة، ليس لها من قوة سوى خيوطها القوية، التي تبني منها بيتها الواهن. وهم من جهة أخرى حشرات حقيرة، خدعتها تلك الخيوط القوية البراقة، فوقعت فيها، وكانت سببًا في هلاكها. أما أولياؤهم فهم بما امتلكوا من قوى أشبه ببيت العنكبوت وخيوطه، التي نسج منها؛ لأنهم رغم كل ما يمتلكون من قوى، لا يستطيعون حماية أنفسهم من الأخطار، التي تحدق بهم، وتهدد أمنهم في كل حين. وإذا كانوا لا يستطيعون حماية أنفسهم، فمن باب أولى ألا يستطيعوا حماية من اتخذهم أولياء من دون الله تعالى.
وفي ذلك تأكيد على أن قوةالله وحدها هي القوة، وولاية الله وحدها هي الولاية، وما عداها فهو واهنضئيلهزيل; مهما علا واستطال, ومهما تجبر وطغى, ومهما ملك من وسائل البطشوالطغيان والتنكيل.. إنها العنكبوت، وما تملك من القوى، ليست سوى خيوط العنكبوت،﴿وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾.
ومن أراد أن يتأكَّد من هذه الحقيقة، فلينظر إلى أمريكا، وإسرائيل، ومن والاهما. وسيعلم حينذ أن العبرة ليست في قوة خيوط العنكبوت ومتانتها؛ وإنما العبرة في قوة بناء البيت من الناحية المادية والمعنوية: الاجتماعية والأخلاقية، وليتأمل بعد ذلك قول الله تعالى عقب هذا المثل:
﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾(العنكبوت:43)
لعله يعقل المراد من هذه الأمثال، ويدرك ما فيها من أسرار، تخفى على الكفرة الجاهلين، والملاحدة المتكبرين.. اللهم اجعلنا من الذين يعقلون أمثالك، ويفقهون كلامك، ويدركون أسرار بيانك، والحمد لله رب العالمين.