معجزات باهرات في آية الخلق
كتب : د. محمود عبد الله نجا بقسم( الإعجاز العلمي غي الإنسان ) تحت عنوان ( معجزات باهرات غي آية الخلق ) :« كثيرون هم الذين قالوا بأن النفس الواحدة في القرآن ليست آدم , وكثيرون أيضًا من قالوا بأن حواء لم تخلق من ضلع آدم , فكان لا بد من الرد عليهم بالأدلة الدامغة لإثبات أن النفس الواحدة في القرآن هي آدم ، وبيان مراحل إيجاد حواء من آدم » .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولاً – بهذه الكلمات التي تدل على ثقة كبيرة بالنفس وجهل واضح بحقيقة النفس الواحدة وزوجها في القرآن ، افتتح ( د. محمود عبد الله نجا ) المدرس بكلية طب المنصورة في جمهورية مصر مقاله ( معجزات باهرات غي آية الخلق ) ، ذلك المقال الذي تحدث فيه عن النفس الواحدة ( آدم ) الذي خلق تمثالاً أجوف ، كما صورته التوراة المزورة ، وتحدث فضيلته عن كيفية خلق الذرية في صلب آدم قبل خلق حواء , وعن مراحل إيجاد حواء من النفس الواحدة حديث خرافة ، لا يستحق في الحقيقة مني تعليقًا عليه ، لولا أن مقاله هذا جاء ردًّا على مقالي ( حقيقة النفس الواحدة وزوجها في القرآن ) ، ذلك المقال الذي جعل هذا الدكتور الفاضل يخرج عن طوره ، ويطلب مني في رسالة بريدية عاجلة بصفة الناصح الأمين أن أتراجع عن هذه الأباطيل ، وهو لا يدري أن الأباطيل– كما قلت له في جوابي عن رسالته- ما هي إلا الأفكار التي تعشعش في رأسه وتفرخ ، ومصدرها الإسرائيليات ، وكان قد وعد أن يأتي بالأدلة الدامغة التي ترد على أباطيلي- على حد تعبيره- التي أخذتها عن جمعية التجديد الثقافية الرد الكامل .
وها هو يأتي – كما يزعم - بتلك الأدلة على روايات مزيفة قصها علينا الكهنة التوراتيون ، مدافعًا عنها دفاع المستميت على أنها من القدسيات التي لا تقبل إلا التسليم بها والخضوع لها ، ويصف أدلته تلك بالدامغة على أن آدم– كما صورته التوراة المزورة- تمثالاً أجوف جامدًا جبلته يد الرب من التراب ، « ونفخ في أنفه نسمة حياة ، فصار آدم نفسًا حية » (سفْر التكوين: 2 / 7) ، ثم « أوقع الرب الإله سباتًا على آدم ، فنام ، فأخذ واحدة من أضلاعه ، وملأ مكانها لحمًا ، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة ، وأحضرها إلى آدم ، فقال آدم : هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي ، هذه تدعى امرأة ؛ لأنها من امرئ أخذت ؛ لذلك يترك الرجل أباه وأمه ، ويلتصق بامرأته ، ويكونان جسدًا واحدًا » (سفْر التكوين: 2/21- 24 ) .
هذا ما ورد في التوراة عن قصة خلق آدم وحواء ، وإليه أشار الطبري عند تأويل قول الله عز وجل :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء ﴾(النساء: 1) ، فقال :« حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال :« ألقي على آدم صلى الله عليه وسلم السَّنَة- فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة ، وغيرهم من أهل العلم ، عن عبد الله بن العباس وغيره- ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقٍّه الأيسر ، ولأم مكانه ، وآدم نائمٌ لم يهبَّ من نومته ، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضِلَعه تلك زوجته حواء ، فسوَّاها امرأة ؛ ليسكن إليها ، فلما كُشِفت عنه السِّنَةُ وهبَّ من نومته ، رآها إلى جنبه ، فقال- فيما يزعمون والله أعلم- : لحمي ودمي وزوجتي ، فسكن إليها » .
ويزيد ابن كثير هذه القصة المفتعلة تزيينًا للعقول والأفهام ، فيقول في كتابه : ( البداية والنهاية ) معقِّبًا على قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾(الحجر: 18) :« فخلقه الله بيده ؛ لئلا يتكبر إبليس عنه ، فخلقه بشرًا ، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة ، فمرت به الملائكة ، ففزعوا منه لما رأوه ، وكان أشدهم منهم فزعًا إبليس ، فكان يمر به فيضربه فيصوِّت الجسد ، كما يصوِّت الفَخَّار يكون له صلصلة .. ويقول : لأمر ما خلقت ، ودخل من فيه ، وخرج من دبره ، وقال للملائكة لا ترهبوا من هذا ، فإن ربكم صمد ، وهذا أجوف لئن سلِّطت عليه ، لأهلكنَّه .. » .
ثانيًا- إذا كانت هذه الروايات المزيفة المأخوذة من التوراة المزورة التي تصوِّر خلق آدم وحواء تلك الصورة المزرية قد أعجبت الكثيرين ، فإن هناك من المفسرين- قدامى ومحدثين- من أنكرها ونبَّه أن مصدرها الإسرائيليات ، وأنه لا يمكن الاعتماد عليها في تأويل آيات خلق الإنسان ؛ لأنه لا أصل لها ، لا في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية الشريفة ، فالقرآن لم يصور لنا آدم تمثالاً أجوف صنع من طين ، وأن حواء صنعت من ضلعه الأعوج ، كما يزعمون ، أو من ضلع طيني لا لحمي ، كما يدعي فضيلة الدكتور محمود نجا . ومن يتدبر آيات القرآن التي تتحدث عن خلق آدم يجدها تتحدث عن كائن حي خلق من تراب ومن طين ومن صلصال ، لا عن تمثال أجوف لا حياة فيه ، وهذا واضح في قوله تعالى :﴿ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾(الحجر:18) ، وقوله في موضع آخر :﴿ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ﴾(ص:71) ، ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ﴾(آل عمران: 59) ، فالمخلوق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون ، ومن طين ، ومن تراب قبل تسويته ونفخ الروح فيه هو مخلوق حيٌّ ، وليس بتمثال أجوف يدخل إبليس من فيه ، ويخرج من دبره ، ثم يرفسه برجله ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه .
فكون آدم مخلوقًا ابتداء من طين يعني أنه كائن حي ، ومثله في ذلك كل مخلوق خلق من طين ، ثم ميِّز عن تلك المخلوقات البشرية التي كان واحدًا منها بالتسوية الجينية ، ونفخ الروح الربانية فيه ، فصار إنسانًا سميعًا بصيرًا ناطقًا مفكرًا مبدعًا ، فاستحق بذلك أن تسجد الملائكة له سجود تكريم ، لا سجود عبادة . وهذا معلوم بداهة ، ولا يجادل فيه وينكره إلا مكابر جاهل قد طمس الله على بصيرته .
ولو سلمنا جدلاً أن آدم خلق تمثالاً أجوف - كما يزعمون - فكيف يفعل إبليس هذا الفعل القبيح بمن خلقه الله عز وجل على صورته ، وأسجد ملائكته له ؛ ليجعله خليفته في الأرض ؟ وهل كان إبليس حينئذ شيطانًا عاصيًا ربه ، أم كان ما يزال على طاعته لربه ؟ ثم لو كان آدم مخلوقًا تمثالاً أجوف ، لوجب أن يكون التعبير هكذا : ( إني خالق كهيئة بشر من طين ) ؛ كما قال عيسى عليه السلام :﴿ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ﴾(آل عمران: 49) . ولو كان التعبير : ( أني أخلق لكم من الطين طيرًا ) ، لدل على أنه يخلق طيرًا حيًّا ، لا تمثالاً جامدًا كهيئة الطير .
ثم لو كان المراد من ( النفس الواحدة وزوجها ) في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(النساء: 1) : آدم وحواء ، فكيف بث الله تعالى منهما ﴿ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾(النساء: 1) ؟ فهل الخروج من بطن الأم هو بثُّ ؟ وإن كان بثًّا ، فهل بثَّت حواء من بطنها رجالاً كثيرًا ونساء . أي : خرجوا من بطنها كبارًا بالغين حفاة عراة غُرْلاً بُهْمًا ، وانتشروا في الأرض انتشار الجراد ، كما يخرجون يوم البعث ﴿مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾(القمر: 7) ؟ أليست الإعادة كالبداية ، كما أخبرنا الله عز وجل عنها بقوله :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾(الأعراف: 29) ، وقوله تعالى :﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾(الأنبياء:104) ، وقوله تعالى :﴿ لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾(الكهف:48) ؟
وإن لم تكن الإعادة كالبداية ، فكيف نفهم - إذًا - قوله تعالى : ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ﴾ (الروم:20) ؟ أليست هذه آية ربانية مذهلة من آيات الخالق المبدع تدلنا على أن أصولنا البشرية مخلوقة من التراب ؟
وإن لم تكن لنا أصول بشرية مخلوقة قبل آدم بآلاف السنين من تراب الأرض ، فكيف نفهم قول نوح – عليه السلام - لقومه :﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ﴾(نوح: 17- 18)؟ أليس هذا إنبات لأصولنا البشرية من الأرض ، ثم تأتي الإعادة في الأرض بعد فترة طويلة الآماد ، ونخرج بعدها من القبور الطينية إخراجًا ؛ كما نبتنا في البداية من رحم الأرض الترابية نباتًا ؟ فكما بدأ تخلُّق البشر في حواضن الطين ، ونموا فيها حتى فقَّسَت بعد أطوار طويلة الآماد عن أفراد ناضجين جنسيًّا ، فكذلك يجب أن يدفنوا بعد موتهم ؛ ليعاد تصنيعهم من جديد بالكيفية نفسها التي تمَّ تصنيعهم فيها أول مرة ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾(طه: 55) ، حيث تفقس القبور الطينية عن أفراد ناضجين بالغين يوم البعث ، وأين الغرابة في ذلك ، والله تعالى يقول :﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾(الروم: 27) ، ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(العنكبوت: 19- 20) ، ﴿آََفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾(ق: 15) ؟
وإن كنا لم نفهم قضية الخلق كذلك ، فكيف نفهم قوله تعالى مخاطبًا الناس كل الناس :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾(الحج: 5) ، حيث ذكرت الآية الخلقين : الخلق الأول من التراب ، والخلق الثاني من النطفة ، وتوسطت ( ثم ) بين الخلقين ؟
وإن كان المراد بهذه النفس الواحدة آدم ، وبزوجها حواء في آية النساء ، فلم لم يأمر الله عز وجل الناس بهذا الخطاب ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾(النساء: 1) بتقوى الألوهية بدلاً من أمرهم بتقوى الربوبية ؟ لماذا لم يقل سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا الله ) ؛ كما قال في الشطر الثاني من هذه الآية نفسها :﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾(النساء: 1) ؟ ولماذا عقَّب سبحانه على الأمر بتقوى الألوهية بقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ (النساء: 1) ، ولم يعقب به على الأمر بتقوى الربوبية ؟
هل يعرف فضيلة الدكتور محمود نجا ومن يقول بقوله هذه الأسرار البديعة والفروق الدقيقة في البيان الأعلى الذي جعله الله سبحانه قبل إنزاله إلى سماء الدنيا قرآنًا عربيًّا ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾(الزخرف: 3 ) ، ولم يجعله قرآنًا أعجميًّا ؛ لعل الدكتور وأمثاله من أصحاب الفهم البدائي في قضية الخلق يعقلون هذا القرآن العظيم ؟ وهل سأل فضيلته نفسه تلك الأسئلة ، وحاول أن يجيب عنها قبل أن يورطها في حديثه الخرافي عن ( معجزات باهرات في آية الخلق ) ، ويزعم أنه أتى بالأدلة الدامغة على أن المراد بالنفس الواحدة آدم المخلوق تمثالاً جامدًا من طين إلا الحيوانات المنوية ، وأن حواء خلقت كجسد طيني قبل تصوير آدم ونفخ الروح فيه ، ثم خلقت حواء الأنثى بعد تصوير آدم ونفخ الروح فيه ؟
يقول فضيلته ذلك في تلك المحاضرة التي يدور موضوعها حول قول الله عز وجل :﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾(الزمر: 6) ، وهو يظن لجهله بحقيقة كيفية خلق الإنسان في القرآن أنه أتى بالحق المبين ، ويصف كل من خالفه القول بأن فهمه خاطئ ، وأن ما أتى به أباطيل .
لقد التبس الأمر على هذا المسكين ، كما التبس على كثير من قبله ومن بعده ، فزعم أن المراد من قوله تعالى خَلَقَكُم ) من آية الزمر السابقة : أن الله خلق الذرية قبل حواء وزواجها من آدم ، واستشهد على ذلك بالآية القرآنية :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾(الأعراف:11) ، ثم زعم أن المراد من قوله تعالى :﴿ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ آدم الذي خلقه الله بيديه ، إلا الحيوانات المنوية ، ودليله الدامغ على ذلك الهراء والتخريف قوله تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ الذي يعني حسب زعمه : ثم خلق حواء من آدم بعد خلق الذرية ، ونسي أن ( جعل ) لا تعني ( خلق ) أبدًا ، ولو أجمع على ذلك اللغويون والمفسرون ، وأن هذه الآية لا تتحدث أصلاً عن خلق آدم ، ولا عن خلق حواء .. يقول فضيلته موضحًا زعمه الباطل :
خَلَقَكُم = ( الذرية خلية جينية ثم أمشاج ) .
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ = ( آدم خلقه بيديه إلا الحيوانات المنوية ) .
ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا = ( خلق منها حواء ) .
والغريب في الأمر أنه يقدم لزعمه هذا بحديثه عن الفرق بين الجعل والخلق ، فيصيب في تعريف الجعل ، ويخلط في تعريف الخلق بين ( الخلق والإبداع والتقدير ) .
وتحت عنوان( معجزة خلق حواء ) يقول فضيلته : (( حواء خلقت كجسد طيني قبل التصوير ونفخ الروح في آدم .. ثم خلق حواء الأنثى بعد تصوير آدم ، ونفخ الروح فيه )) ، ويستشهد على ذلك بالآية القرآنية :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾(الأعراف: 11) .
ويسأل فضيلة الدكتور :(( هل خلق الله حواء من لحم آدم- الحمض النووي- أم من طينة آدم )) ؟ ويجيب عن ذلك مخالفًا جمهور المفسرين بـ(( أن الله خلق حواء من ضلع آدم الطيني )) ، ودليله الدامغ على ذلك القول الباطل الحديث الصحيح :« إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها ، استمتعت بها ، وفيها عِوَج » . ويسأل سؤال عبقري : (( هل قال : ضلع من عظم ، أو ضلع من لحم ؟ قال : ضلع فقط )) . وهذا في زعمه دليل على أن حواء خلقت من ضلع طيني ، مع أن الحديث لا يدل لا من قريب ، ولا من بعيد على أن حواء خلقت من ضلع آدم ، وهذا ما بينته في مقالي ( هل خلق آدم تمثالاً أجوف وخلقت حواء من ضلعه ؟ ) .
ويتابع الدكتور الفاضل حديثه الشيق الذي أضحك المستمعين وكلهم من علماء الإعجاز ، فيقول : (( ضلع صغير- قطعة طين من أضلاع آدم- تحولت إلى حواء ، لم يخلق الله تبارك وتعالى حواء طفلة صغيرة ، ثم طورها إلى الكبير ؛ بل خلقها على هيئتها التي عاشت عليها كبيرة طويلة مناسبة لطول آدم عليه السلام )) .
ثم يسأل فضيلته : (( كيف خلقنا الله من آدم وحواء )) ؟ ويذكر قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾(المؤمنون: 12-13 ) .
ويزعم أن الإنسان المخلوق هنا هو الإنسان الأول ( آدم ) . أي : خلق الله آدم من سلالة من طين ، ثم جعل ذريته نطفة في قرار مكين ( رحم الأم ) . ثم يخلط بين هذه النطفة ، ونطفة أمشاج المذكورة في قوله تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾(الإنسان: 2) ، ويفهم فضيلته أن الإنسان هنا يعني الذرية ، وإلى هذا ذهب الطبري ، فقال :« أي : إنا خلقنا ذرية آدم من نطفة » .
وهكذا فهموا أن المراد من ( الإنسان ) هو ذرية آدم خلقت من نطفة أمشاج ، مع أن الإنسان المخلوق هنا هو آدم أصلنا ، خلافًا لما فهموا ، فالله تعالى يخبرنا في هذه الآية المعجزة أنه خلق الإنسان ( آدم ) من نطفة أمشاج . أي : بتصرف جيني ، وبنو آدم ورثوا هذه الخلقة ( الصبغة الجينية ) منه ، كما ورثوا منه نفخ الروح .
والدليل على أن المراد بالإنسان هنا ( آدم ) قوله تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ . أي : صيِّر بعد خلقه من نطفة أمشاج ( سَمِيعًا بَصِيرًا ) . أي : يسمع الملائكة والشيطان ويراهم ، وهذه السمة ( سميع بصير ) هي سمة ربانية اختص بها الرب عز وجل ، وخصَّ بها آدم أول إنسان خلقه بيديه دون بنيه ، ثم فقدها بمعصيته وإخراجه من الجنة ، وفقدها معها بنوه . فلم يجعل الرب أحدًا ( سَمِيعًا بَصِيرًا ) غير آدم ، ولم يخلق الرب أحدًا من ﴿ نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ غير آدم . أما الإنسان الذرية فكان نطفة من مني يمنى ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ﴾(القيامة: 37) ، ﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ﴾(النجم: 45- 46) ، وجعل الله عز وجل له السمع والأبصار والأفئدة ( أدوات العلم والإدراك وأدوات العقل فوق الغريزي ) ﴿ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾(النحل: 78) .
والدليل على أن المراد من الإنسان في قوله تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ آدم أبو الناس جميعًا وأصلهم قوله تعالى في الآية التي سبقت هذه الآية من سورة الإنسان :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾(الإنسان: 2) ، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾(الإنسان: 2) ، فكرر لفظ ( الإنسان ) ، والفرق بينهما : أن الإنسان في الآية الأولى هو الجنس الإنساني كله ، وأن الإنسان في الآية الثانية هو آدم أصلنا نحن . ولو لم يكن كذلك لكان ذكر لفظ ( الإنسان ) في الآية الثانية تكرارًا لا فائدة فيه . أو لوجب أن يكون نظم الآية هكذا : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر .. فإنا خلقناه من نطفة أمشاج ) بإعادة ضمير الإنسان ، وتصدير الآية الثاني بالفاء ، فيكون بذلك إنسان الآية الأولى هو إنسان الآية الثانية ، وهذا خلاف المراد .
وأما قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾(المؤمنون:12-13) فيبِّن بوضوح لا لبس فيه بآياته الثلاثة المراحل التي بدأت بخلق البشر الأوائل من ( سلالة من طين ) ، وانتهت بخلق الإنسان الأول ( آدم ) الذي نسلت منه الإنسانية بعد تسويته ونفخ الروح فيه .
فالمرحلة الأولى : بدأت من الطين ، وانتهت إلى الماء المهين .
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ﴾ .
والمرحلة الثانية : ابتدأت من الماء المهين ، وانتهت إلى نفخ الروح .
﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ﴾ ، وهذا ما عبرت عنه الآية الأخرى بإيجاز :﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴾ (المرسلات:21).
والمرحلة الثالثة : مرحلة ما بعد التسوية ونفخ الروح .
﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ ؛ وذلك بالتسوية الجينية ونفخ الروح التي ورثهما بنو آدم منه باعتباره أبو الإنسان ، وهذا ما أفاده التعبير بـ( ثم ) التي تفيد الترتيب والتراخي ، وبـ( أنشأناه خلقًا آخر ). أي : بعد أحقاب مديدة أنشأناه خلقًا مغايرًا في تركيبه الجيني للخلق الأول ، وهذا ما أفاده لفظ ( آخر ) ، بفتح الخاء المغاير للفظ ( أول ) .
وهذه المراحل الثلاثة ، قبل أن تكون وصفًا لما في الرحم الذي سيتمخض طفلاً ، هي نفسها مراحل تكوينه الأولى ما قبل التاريخ .وإلى نحو المرحلة الثالثة من هذه المراحل الثلاثة ذهب الفخر الرازي في تأويل قوله تعالى :﴿ ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ ﴾ ، فقال :« أي : غير خلق النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظامًا . وبهذا الخلق الآخر ،وهو نفخ الروح ، تميز الإنسان عن أنواع الحيوانات ، وشارك الملك في الإدراكات » . هذا القول ذكره الرازي في التفسير الكبير عند تأويل قوله تعالى :﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ﴾ (النجم: 47) ، ونسبه ابن عادل في تفسير اللباب إلى ابن الخطيب ، وهو قول اطلعت عليه بعد كتابة المقال ، فأضفته هنا .
فهل يعرف الدكتور الفاضل محمود نجا وأمثاله هذه الفروق بين ( الخلق الأول ) و ( الخلق الآخَر ) بفتح الخاء ، و( الخلق الآخِر ) بكسر الخاء ، وبين ( النشأة الأولى ) ، و( النشأة الأخرى ) ، و( النشأة الآخرة ) ، وبين قوله تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾(الإنسان:2) ، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَارًا ﴾(الأحقاف:26) ؟ ليته تأمل وتدبر قبل أن يتَّهم غيره بالخطأ في الفهم ، والإتيان بالأباطيل !
ثالثًا- وأعود بعد هذا إلى ( النفس الواحدة وزوجها ) ، فأقول : ذكرت في مقالي ( حقيقة النفس الواحدة وزوجها في القرآن ) أن النفس الواحدة في القرآن نفسان :
الأولى : النفس البشرية ، وهي ( الخلية الحيَّة الأولى ) التي تحمل الصبغتين : الذكرية والأنثوية ، فهي عديمة الجنس . أي : ( خنثى ) ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(النساء: 1) .
والثانية : النفس الإنسانية ، وهي آدم أبو الإنسان ، لا أبو البشر ، وهي المشار إليها بقوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(الأعراف:189) .
والفرق بين النفسين : أن زوج النفس البشرية مخلوقة منها ، بخلاف زوج النفس الإنسانية فهذه مجعولة منها . أي : من جنسها ؛ ولهذا جاء التعبير عن الأولى بقوله تعالى :﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجُهَا ﴾ ، وجاء التعبير عن الثانية بقوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ ، والمجعول غير المخلوق .
ومن النفس البشرية قوله تعالى :﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ .. ﴾(الزمر:6) ، فهذه النفس هي النفس المذكورة في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾(النساء:1) ، وهي كما ذكرت ( الخلية الحيَّة الأولى ) التي تحمل الصبغتين : الذكرية والأنثوية ، ثم انقسمت إلى خلايا ذكرية مخصَّبة ، وأنثوية مخصَّبة ، ثم نمت هذه الخلايا في ( رحم الأرض الطينية ) ، كما تنمو الخلية الملقحة تمامًا في ( رحم المرأة ) ، ثم انبثقت عن رجال ونساء بالغين ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ﴾ ، حيث نظام الربوبية ﴿ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾ الذي هو رب لكل الكائنات الحية . جاء في كتاب الخلق الأول تعقيبُا على هذه الآية :« فأصولنا كخلق حيواني ( بيولوجي متحرك ) جاء من خلايا أولى تحمل الشفرة الأولى (d na ) ، ثم بعد دهور وفي ظل ظروف مناسبة وتطورات ﴿ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ ، وهو نسخة أخرى من (d na ) الأصل ، انقسمت ؛ لتكوين زوج آخر من الخلايا ، وهكذا استمر بهذا الانقسام التخليق البشري ، كما بحدث في بطن الأم ؛ لذلك تركها سبحانه إيجازًا ، وقد فصلها سبحانه في النساء بولادة البشر البالغين ، وأنزل سبحانه من ( مصدر القرار في الأرض حيث الجنة والتدبير وتقرير المصائر ) أنزل أصول الأنعام الثمانية . وما دام الموضوع عن الأصول بأنها الشفرة الجينية ، فأصول الأنعام المنزلة هي خلاياها الأولى الحاوية شفرتها الجينية ؛ لتخليقها بهذه الكيفية المقدرة بروعة ، والمناسبة لنا غذاء وشرابًا ولباسًا ومركبًا ؛ لتتخلق بداياتها ؛ كما تكوَّنا نحن بصورة جاهزة ومعجلة ، متزامنًا ذلك مع مرحلة التكاثر البشري بين الرجال والنساء التي انتقلت بالولادات البشرية إلى الطور الرحمي » .
وأما القول بأن الله تعالى خلق الذرية قبل حواء وزواجها من آدم ، ثم خلق حواء الطينية من ضلع آدم الطيني قبل تصوير آدم ، ثم خلق حواء الأنثى بعد تصوير آدم ، وأن الله خلق آدم بيديه إلا الحيوانات المنوية ، فهذا كله هراء لا دليل عليه ؛ فالآية لم تتحدث أصلاً عن خلق آدم وحواء ؛ بل تتحدث عن أصولنا البشرية ، منذ أن صار البشر ينتجون أنفسهم ، وتتحدث عن أصول الأنعام التي سخرت لهم ، ولولاها لأكل بعضهم بعضًا ، وهلكوا جميعًا منذ البداية ، وبالتالي لما كان لنا نحن وجود . وقد قال الله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴾(الأنعام:98) ، فالمستقر كان ولا يزال هو الأرض ، هو في البداية حين النفس الواحدة ، وهو الآن مستقر لكل إنسان ﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾(البقرة:36 ، والأعراف:24) ، والمستودع هو الذي في الأرحام يتكوَّن بلقاح الزوجين ، وهو عملية عكسية للبداية ، حيث الآن تخلق النفس الواحدة من الزوجين ، وفي البداية خلق الزوجان من نفس واحدة ، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله :
﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ﴾ (السجدة: 7-9) .
فهذه الآيات تتحدث بجلاء ووضوح عن ابتداء خلق الإنسان من طين ، وهو طوره البشري الأول ، ثم بعد أحقاب صار لأولئك البشر سلالة تأتي من ماء لقاح ذكوره بإناثه ( الذين بثوا من النفس الواحدة التي خلق منها زوجها رجالاً كثيرًا ونساء ، وانتشروا في الأرض انتشار الجراد ، حفاة عراة غرلاً بهمًا ، وهكذا سينتشرون يوم البعث خارجين من قبورهم الطينية ) . ومن هؤلاء البشر الهمج الذين تكائروا عبر التلقيح الزوجي بعد تكائرهم عبر الولادة الكونية من رحم الأرض الطينية بأحقاب مديدة ، اختير منهم زوجًا ؛ ليتم تصويرهما وتسويتهما جينيًّا ، ونفخ الروح الربانية فيهما ، وهما : ( آدم وحواء ) اللذين أشير إليهما بقوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾(الأعراف:189) .
وأما قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾(الأعراف:11) الذي استشهد به فضيلة الدكتور محمود نجا على أن ( خَلَقَكُم ) من قوله تعالى :﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾(الزمر:6) معناه : أن الله خلق الذرية قبل حواء والزواج من آدم ، ثم خلق حواء من ضلع آدم الطيني ، فقد اختلف في تأويله المفسرون على أقوال هذا أحدها ، وإلى هذه الأقوال أشار الرازي بقوله :« قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ يفيد أن المخاطب بهذا الخطاب نحن ، ثم قال بعده :﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾ ، وكلمة ( ثُمَّ ) تفيد التراخي ، فظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ؛ فلهذا السبب اختلف الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال:
الأول : أن قوله : ( وَلَقَدْ خلقناكم ) . أي : خلقنا أباكم آدم ، و( صورناكم ) . أي : صورنا آدم ، ( ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ ) ، وهو قول الحسن ويوسف النحوي ، وهو المختار .
الوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله : ( خلقناكم ) آدم ، ( ثُمَّ صورناكم ) . أي : صورنا ذرية آدم عليه السلام في ظهره ، ثم بعد ذلك ( قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) . وهذا قول مجاهد ، فذكر أنه تعالى خلق آدم أولاً ، ثم أخرج أولاده من ظهره في صورة الذر ، ثم بعد ذلك أمر الملائكة بالسجود لآدم .
الوجه الثالث : ( خلقناكم ، ثم صورناكم ) ، ثم إنا نخبركم : أنا ( قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) ، فهذا العطف يفيد ترتيب خبر على خبر ، ولا يفيد ترتيب المخبر على المخبر .
والوجه الرابع : أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير .. وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته ؛ لتخصيص كل شيء بمقداره المعين ، فقوله : ( خلقناكم ) إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم . وقوله : ( صورناكم ) إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة . فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته ، والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ ، ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم ، وأمر الملائكة بالسجود له . وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه » .
فالقول الأول من هذه الأقوال الأربعة هو اختيار الجمهور ، والقول الرابع هو اختيار الرازي والقول الثاني هو اختيار الدكتور الفاضل محمود نجا .. وهذه الوجوه كلها خطأ ؛ لأنها مبنية على خطأ ، وهو اعتبار أن آدم – حسب التصور الكهنوتي التوراتي- هو أول مخلوق على وجه الأرض ، وأن حواء خلقت من ضلعه الأعوج . ولولا هذا التصور الذي سيطر على العقول ، لما اختلفوا في تفسير هذه الآية وغيرها من آيات الخلق ، فقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ﴾ يعني : خلقنا أصولكم البشرية . أي : خلقناكم بشريًّا ، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ يعني : صورناكم إنسانيًّا عبر جيناتكم ، وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ﴾ يعني : الأمر للملائكة بالسجود لآدم الذي هو أبوكم إنسانيًّا ؛ وذلك بعد نفخ الروح الربانية فيه . وهذا هو الترتيب المنطقي لهذه الجمل التي فصل بينها بـ( ثم ) ، وهي على بابها من الدلالة على المهلة والتراخي .
ولو أننا تدبرنا آيات الخلق في القرآن الكريم كما أمرنا الله عز وجل ، بقلوب مفتوحة وعقول متحررة من روايات الكهنة التوراتيين المدسوسة ، لوجدنا أن هذه الآيات تنطق بالحق المبين دون أن يستنطقها أحد ؛ ولكننا بدلاً من أن نأتمر بأمر الله عز وجل ، أقبلنا على القرآن نتدبره بقلوب مقفلة ، وعقول مغلقة ، فأسأنا بذلك إلى أنفسنا وإلى قرآننا « إن أكبر مهزلة ، بل أكبر مأساة ، أن تم تعليق مصداقية ووثاقة ما يقوله القرآن ، وربطه بما زعمته التوراة في خلق الإنسان ، مع أن القرآن الكريم أثبت أنه جاء ؛ ليقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وأنه مهيمن على الصادق من تلك الكتب ، فضلاً عن غيرها .. انقلب ظهر المجن ، ولُبِس الإسلام كالفرو مقلوبًا ، فصار أهل الكتاب هم الذين يقصون على القرآن وأهله ، وأصبح الفكر التوراتي هو المهيمن على تفسير قضايا القرآن وآياته ، وقضايا العلم والكون » ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
رابعًا- وأختم كلامي مكتفيًا بهذا القدر بقول الله تعالى :﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾(العنكبوت: 20) ، وأسأل فضيلة الدكتور محمود عبد الله نجا : هل امتثل أمر الله عز وجل ، وسار في الأرض هو وعيره بحثًا عن الكيفية التي تم بموجبها خلق الله عز وجل هذا الكون العجيب الصنع ، وخلق أنفسنا ، أم أنه سار في بطون كتب التفسير ، وأخذ منها ما يلائم فكره ويتناسب مع نظره إلى قضية الخلق البشري المأخوذ من التوراة المزروة ؟
ألا يرى فضيلته أن هذا الأمر الحاسم ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ هو دعوة صريحة ، أن نعتمد علم الآثار بالبحث والتنقيب والتأمل لمعرفة كيف بدأ الله الخلق ؛ لتطابق المعرفة الحقيقة التي نطق بها القرآن وينكشف لنا صدقها ، لا أن نأخذها من التوراة المزوَّرة ، وأنه يعتبر آثمًا كل من كان لديه القدرة على تنفيذ هذا الأمر الإلهي ، ولم ينفذه ؟ .
وسؤال آخر أطرحه على فضيلته : إذا كان الله سبحانه قد ابتدأ خلق الإنسان بآدم وحواء ، فما فائدة أن يأمرنا بالسير في الأرض ؛ لننظر كيف بدأ هذا الخلق ؟ وما فائدة أن ينكر علينا سبحانه عدم رؤيتنا لكيفية بدأ الخلق وإعادته في قوله قبل الآية السابقة :﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾(العنكبوت:19) إن كان المراد بهذا البدأ الخلق من بطون الأمهات ؟ وهل هذه البداية من بطون الأمهات هي التي تقابل بالإعادة يوم البعث ، وتكون بالكيفية نفسها ؟ أم أن هناك خلقًا كونيًّا يقابله خلق كوني يوم البعث بنفس الكيفية ؟ أولم ير هؤلاء القوم أن خلق السموات والأرض قد تم بنفس الكيفية التي تم بها خلق البشر الأول ، ( كتلة واحدة ثم انفتقت ، انفطرت ) ، ( نفس واحدة ثم انفطرت – خلق منها زوجها ) ؟
( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾(نبياء:30)، ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾(الشورى:11) ، ﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾(الإسراء:51) ، ﴿ وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾(يس:22) ، ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾(غافر:57) ، ﴿ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ﴾(النساء:78) ، ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾(محمد:24) ؟
بقلم : محمد إسماعيل عتوك