السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
إن العبادة هي الحكمة التي خلق الله الإنسان من أجلها قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}[الذاريات:56]
وقد
أمر الله سبحانه جميع الثقلين بهذه العبادة التي خلقوا لها، وأرسل الرسل
جميعاً، وأنزل الكتب لبيان هذه العبادة وتفصيلها والدعوة إليها، والأمر
بإخلاصها
لله وحده، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}،
وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، ومعنى قضى ربك في هذه الآية أمر وأوصى،
وقال تعالى: {وَمَا
أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ}وقال
سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}الآية، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا
أَنَا فَاعْبُدُونِ}، وقال تعالى: {الر
كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ
خَبِيرٍ * أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ
وَبَشِيرٌ}
فهذه
الآيات المحكمات وما جاء في معناها من كتاب الله كلها تدل على وجوب إخلاص
العبادة لله وحده، وأن ذلك هو أصل الدين وأساس الملة، كما تدل على أن ذلك
هو الحكمة في خلق الجن والإنس وإرسال الرسل وإنزال الكتب
وفي
الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
((أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟)) فقال معاذ: قلت
الله ورسوله أعلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حق الله على العباد أن
يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به
شيئا))
ولما كان وجود الإنسان في هذه الحياة من أجل أن يكون عبدًا لله، كانت العبادة هي الدعوة التي نادى بها كل نبي قومه.
قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله } [النحل:36].
وقال
تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا
فاعبدون} [الأنبياء:25].وقال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فقال يا
قوم اعبدوا الله} [المؤمنون:23].وقال تعالى: {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا
الله واتقوه} [العنكبوت:16] .وقال تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا
قوم اعبدوا الله}[الأعراف:65] وقال تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا
قوم اعبدوا الله} [الأعراف:73] وقال: {وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا
الله ربي وربكم} [المائدة: 72].
وعبادة
الله سبحانه هي أعظم منزلة يتطلع إليها الإنسان ، فقد وصف الله بها أكرم
خلقه وهم الأنبياء، كما كانت أعظم كلمة يقولها كل نبي عن نفسه، يقول
تعالى(ولقد
سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين)[الصافات:17].وقال الله تعالى: {ذرية من
خلقنا مع نوح إنه كان عبدًا شكورًا} [الإسراء:3].وقال تعالى: {واذكر عبادنا
إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} [ص:45].وقال تعالى: {ذكر
رحمت ربك عبده زكريا} [مريم:2].وقال تعالى {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد
إنه أواب} [ص: 31].ويقول تعالى عن أيوب -عليه السلام-: {إنا وجدناه صابرًا
نعم العبد إنه أواب} [ص:44].ويقول عيسى -عليه السلام-: {إني عبد الله أتاني
الكتاب وجعلني نبيًّا} [مريم:13].
ولقد وصف الله -عز
وجل-نبيه وخليله محمدًا بالعبودية في أجلِّ المواقف وأعظمها؛ ففي رحلة
الإسراء والمعراج قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء:1] و في
مقام الوحي و التنزيل وقال: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم:10] و قال
تعالى ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ) (
الكهف:1) وفي مقام الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته، قال تعالى: {وأنه لما
قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدًا} [الجن:19] وفي مقام التحدي
قال تعالى( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُواْبِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ
اللّهِ إِنْكُنْتُمْ صَادِقِينَ )البقرة23
وكان يصلي صلى الله عليه وسلم حتى تتورم قدماه فوقف
ذات ليلة يصلي بين يدي ربه، وأطال الوقوف حتى تورمت قدماه، فأشفقت عليه
زوجته
السيدة عائشة -رضي الله عنها- وبعد أن أتم الصلاة قالت له: هَوِّنْ عليك
يا رسول الله، فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال صلى الله
عليه وسلم (: (أفلا أكون عبدًا شكورًا)[متفق عليه]
وعرف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - العبادة بأنها :
" اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة
كالصلاة والزكاة ، والصيام والحج ، وصدق الحديث ،
وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهود ، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد للكفار والمنافقين ، والإحسان للجار
واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم ، والدعاء
والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة .
وكذلك
حب الله ورسوله ، وخشية الله والإنابة إليه ، وإخلاص الدين له ، والصبر
لحكمه ، والشكر لنعمه ، والرضى بقضائه والتوكل عليه ، والرجاء لرحمته
والخوف من عذابه وأمثال ذلك من العبادة لله .
وذلك
أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له ، والمرضية له التي خلق الخلق لها
كما قال تعالى ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
) سورة الذاريات
ومن
هذه العبادة أن يعظموا أوامره ونواهيه، وأن يصرفوا العبادة له سبحانه
وحده دون كل ما سواه، وأن يطيعوا أوامره وأن ينتهوا عن نواهيه متبعين في
ذلك ما دل عليه كتابه وجاءت به سنة نبيه عليه الصلاة والسلام
إن
العبادة لا تنحصر في حد ضيق، ولكنها تشمل كل ما شرعه الله من الأقوال
والأعمال والنيات فهي تشمل أقوال اللسان، وحركات الجوارح، ومقاصد القلوب،
بل تشكل كل حياة المسلم حتى أكله وشربه ونومه، إذا نوى بذلك التقوى على
طاعة الله بل حتى معاشرته لزوجته إذا نوى بها التعفف عن الحرام.
كما
قال النبي : { إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل
تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة }.
قالوا: يارسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: { أرأيتم
لو وضعها في حرام أكان عليه وزره فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر }.
فالمسلم
عبد الله في كل تحرك وسكون قال تعالى ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) سورة الأنعام الآية
162
فالعبادة هي التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من الأعمال
والأقوال الظاهرة والباطنة، وهي حق الله على خلقه وفائدتها تعود إليهم،
فمن أبى أن يعبد الله فهو مستكبر، ومن عبد الله وعبد معه غيره فهو مشرك،
ومن عبد الله وحده بغير ما شرع فهو مبتدع، ومن عبد الله وحده بما شرع فهو
المؤمن الموحد.
وعبادة الله سبحانه وتعالى تنبني على أصول وأسس
أولاً: أنها توقيفية
بمعنى
أنه لا مجال للرأي فيها بل لابد أن يكون المشرع لها هو الله سبحانه وتعالى
أو رسول الله كما قال تعالى لنبيه فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ
مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا )[هود:112]، وقال تعالى( ثُمّ جَعَلنَاكَ عَلَى
شَريعَةٍ مِنَ الأمرِ فاتّبِعها ولا تَتّبعِ أهَواءَ الذينَ لا يَعلمُون
)[الجاثية:18]
ثانياً: لا بد أن تكون العبادة خالصة لله تعالى من شوائب الشرك
كما
قال تعالى( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً
صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) [الكهف:110].
فإن
خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها، كما قال تعالى( وَلَو أشرَكُوا لَحَبِط
عَنهُم مَا كانُوا يَعَملُون ) [الأنعام:88]، وقال تعالى( وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ
اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ) [الزمر:66،65].
ثالثاً: لا بد أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها رسول الله
كما
قال تعالى( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )
[الأحزاب:20]، وقال تعالى( ومَاءَ آتاكم الرّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُم
عَنهُ فانَتّهُوا ) [الحشر:7]. وقال النبي : { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا
فهو رد }. وقوله : { صلوا كما رأيتموني أصلي }. وقوله: { خذوا عني مناسككم
}
رابعاً: أن العبادة محدودة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها وتجاوزها
كالصلاة
مثلاً، قال تعالى( إن الصّلاةَ كانَتَ على المُؤمِنِينَ كِتاباً مَوقُوتا)
[النساء:103]. وكالحج، قال تعالى( الحَجُ أشهُرٌ مَعلومَاتٌ )
[البقرة:197]. وكالصوم، قال تعالى( شََهرُ رمَضَانَ الّذي أنزلَ فيهِ
القُرءَانُ هُدًى للنّاسِ وبَيناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان فَمنَ شَهدَ
مِنكُمُ الشَهرَ فليَصُمهُ ) [البقرة:185]. فلا تصح هذه العبادات في غير
مواقيتها.
خامساً: لابد أن تكون العبادة قائمة على محبة الله تعالى، والذل له، وخوفه ورجائه
قال
تعالى( أولئِكَ الّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إلى رَبِهِمُ الوَسِيلَةَ
أيّهُم أقرَبُ وَيَرجُونَ رَحمَتَهُ ويًخافُونَ عَذابَهُ ) [الإسراء:57].
وقال تعالى عن أنبيائه( إنّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيَراتِ
ويَدَعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وكانُوا لنا خَاشِعِينَ )[الأنبياء:90].
وقال تعالى( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ
فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ) [آل عمران:32،31].
سادساً: أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلاً إلى وفاته
قال
تعالى( وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) [آل عمران:102]،
وقال: ( واعَبدَ ربَكَ حتَى يأتِيك الَيقِين ) [الحجر:99].
و في الختام
فإن العبادة هي التقرب إلى الله - عز وجل - بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه.
وهي شاملة لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وروح العبادة ، ولبها ، وحقيقتها تحقيق الحب والخضوع لله - تعالى-
يقول ابن القيم -رحمه الله- في النونية :
وعـبادةُ الرحمـن غَايَـةُ حُبِّـهِ مـع ذُلِّ عـابـده همـا قُـطْبَـانِ
وعليهمــا فلـك العبـادة دائـرٌ مـا دار حــتى قــامت القطبـانِ
ومـداره بـالأمر أمــرِ رسـوله لا بالهـوى, والنفـسِ, والشـيطانِ
و الحمد لله رب العالمين
و صلى الله على رسوله محمد و على آله و صحبه أجمعين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منقول بتصرف من
1- مفهوم العبادة في الإسلام- اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
2-ضوابط العبادة الصحيحة الشيخ /صالح بن فوزان الفوزان
3- حقيقة العبادة التي خلق من أجلها الثقلان الشيخ / عبد العزيزبن باز
4- بيان حقيقة العبادة وتوحيدها للخالق سبحانه الشيخ / عبد العزيزبن باز
5- العبادة
6- العبادة في الإسلام