قال الشيخ أبو جعفر الدينوري:كان أحمد بن طولون رجلاً طائش السيف، يجوز ويعسف، وقد أحصي من قتلهم صبرا أو ماتوا في سجنه فكانوا ثمانية عشر ألفا! ولما ذهب الشيخ أبو الحسن بنا يعنفه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، طاش عقله، فأمر بإلقائه إلى الأسد. وكان الأسد الذي اختاروه للشيخ أغلظ ما عندهم، جسيما ضاريا، عارم الوحشية، متزيل العضل، هراسا فراسا، يلوح شدقه من سعته وعمقه كفتحة القبر كأنما ينبئ أن جوفه مقبرة! وأجلسوا الشيخ في قاعة، وأشرفوا عليه ينظرون، ثم فتحوا باب القفص من أعلاه، فجذبوه فارتفع، ودفعوا بالأسد يزجرونه، فانطلق يزمجر ويزأر زئيرا تنشق له المرائر، ويتوهم من يسمعه أنه الرعد وراءه الصاعقة! ورأينا الشيخ ساكنا مطرقا لا ينظر إلى الأسد ولا يحفل به وما منا إلا من كاد ينتهك حجاب قلبه من الفزع والرعب والإشفاق على الرجل.
ولم يرعنا إلا ذهول الأسد عن وحشيته، فأقعي على ذنبه، ثم لصق بالأرض هنيهة، يفترش ذراعيه، ثم نهض نهضة أخرى كأنه غير الأسد، فمشي مترفقا ثقيل الخطو، تسمع لمفاصله قعقعة من شدته وجسامته، وأقبل على الشيخ وطفق يحتك به ويلحظه ويشمه، كما يصنع ال******* مع صاحبه الذي يأنس به، وكأنه يعلن أن هذه ليست مصاولة، بين الرجل التقي والأسد، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله! قال الدينوري: وانصرفنا عن النظر في السبع إلى النظر في وجه الشيخ، فإذا هو ساهم مفكر، ثم رفعوه، وجعل كل منا يظن ظنا في تفكيره. فمن قال: إنه الخوف أذهله عن نفسه.
وقائل:إنه الانصراف بعقله إلى الموت. وثالث: يقول:إنه سكون الفكرة يمنع الحركة عن الجسم فلا يضطرب. وزعم جماعة أن هذه الحالة من الاستغراق يسحر بها الأسد!
وأكثرنا من ذلك، وتجارينا فيه، حتى سأله ابن طولون: -ما الذي كان في قلبك، وفيم كنت تفكر؟
-فقال الشيخ:لم يكن علي بأس، وإنما كنت أفكر في لعاب الأسد: أهو طاهر أم نجس؟! *ما أعظم حسن الظن بالله وعدم اليأس من رحمته حين يجعل حتى أسود الغاب الضارية تهاب المؤمن المتوكل وتترفق به بأمر ربها.</blockquote>