الرسول ( في المدينة
كانت يثرب قبل الهجرة تموج
بالصراعات والحروب والدسائس، فنار العداوة مشتعلة بين قبيلتي الأوس
والخزرج، والحرب بينهما سجال، فإذا انتصر أحدهما عمل الآخر بكل طاقته على
إلحاق الهزيمة به، حتى فني الرجال، وترملت النساء وتيتم الأبناء، وكان
اليهود يقفون خلف الستار، يزيدون النار اشتعالا، فيمدون الطرفين بالسلاح،
ويثيرون بينهما العداوات والفتن؛ آملين أن يقضي بعضهم على بعض، حتى تكون
لليهود السيادة والكلمة الأولى في المدينة.
واجتمع أهل يثرب على
(عبدالله بن أبي بن سلول) لتكون له الكلمة العليا في إدارة المدينة، ولكن
الله أراد السلامة للمدينة؛ وأراد لها أن تكون مركز الدولة الإسلامية،
فأقبل موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة، فاستقبله أهلها
استقبالا عظيمًا؛ وكان أمل كل واحد منهم أن يستضيف الرسول صلى الله عليه
وسلم في بيته، فكلما مرت الناقة التي تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ببيت، خرج أهل ذلك البيت، وتعلقوا بزمامها، وهم يرجون أن ينزل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عندهم، فكان يقول لهم: (دعوا الناقة فإنها مأمورة) أي
اتركوا الناقة فإنها ستقف وحدها حيث أمرها الله تعالى.
وفي مكان يملكه
يتيمان من بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري بركت الناقة، فقال صلى
الله عليه وسلم: (هذا إن شاء الله المنزل) فحمل أبو أيوب رحل النبي صلى
الله عليه وسلم إلى بيته. [ابن إسحاق] وإذا بفتيات صغيرات من بني النجار،
يخرجن فرحات بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وينشدن:
نَحْنُ جَوارٍ مِن بنـي النـَّجَّـار يا حبَّـذَا محمـدٌ مـن جـَـارِ
وفي
بيت أبي أيوب الأنصاري المكون من طابقين، نزل رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الطابق السفلي، فقال له أبو أيوب: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، إني
لأكره وأعظِّم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر (اصعد) أنت فكن في الأعلى،
وننزل نحن فنكون في السفل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يا أبا أيوب، إنه لأرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في أسفل البيت) _[أحمد].
وهكذا
كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يثقل على أهل البيت، وكان الصحابي أبو
أيوب الأنصاري كريمًا في ضيافته، فإن صنع طعامًا لا يأكل هو زوجته إلا بعد
أن يأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أولا، ثم يأكلان من موضع أصابعه
حبًّا فيه وطلبًا لبركته.
بناء المسجد:
عاش المسلمون في المدينة حياة
آمنة مطمئنة، يغشاها الهدوء والسكينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
بينهم في وطنهم الجديد، لقد أصبحت لهم دولة دينها الإسلام، وقائدها الرسول
صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم هو
بناء مسجد يجتمعون فيه، فيؤدون فيه صلاتهم، ويقضون أمورهم، ويتشاورون فيما
يخصهم، فاشترى صلى الله عليه وسلم الموضع الذي بركت فيه الناقة؛ ليبني فيه
المسجد.
وتجمع المسلمون لبناء المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
معهم، ينظف المكان، ويحمل معهم الطوب، ويشارك في البناء، فهذا يقطع النخيل،
وهذا يحفر أماكن الأعمدة، وذاك يقيم الجدار، وآخر يعد الطين، وهذا يحمل
الطوب، كلهم ينشدون:
لَئِنْ قَـعَـدنا والنبــي يَعمَــل لـَذَاك منـَّا العمـلُ المضَـلَّلُ
وينشدون أيضًا::
لا عَيْشَ إلا عيـشُ الآخِـرَة اللَّهُمَّ فارحَمِ الأنْصَارَ والمهاجِرَة
ومن
المسجد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظم دولته، وكان أهم شيء في هذه
الدولة هم الأفراد الذين يعيشون فيها؛ لأنها تنهض بهم وتعتمد عليهم، فكان
المسلمون في المدينة عندئذ قسمين:
-المهاجرون، وهم أهل مكة الذين هاجروا بدينهم إلى المدينة.
-الأنصار، وهم أهل المدينة الأصليون، الذين اعتنقوا الإسلام، واستضافوا المسلمين في بلدهم، ونصروا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي
بداية الهجرة كان المهاجرون في المدينة يعانون من الوحشة والإحساس
بالغربة، فحياة المدينة وجَوُّها يختلفان عن مكة، مما جعل أكثرهم يتعرض
للمرض، فتوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه ودعاه أن يحبب المدينة
إلى قلوب المهاجرين، وأن يزيل مرض الحمى عنهم، فاستجاب الله تعالى لنبيه
وحبَّبَ إلى المهاجرين العيش في المدينة، وصاروا يتحركون في شوارعها،
وسوقها بحماس ومرح كأنهم ولدوا ونشئوا فيها.
الصلح بن الأوس والخزرج:
وكان
الأنصار قبيلتين كبيرتين: الأوس، والخزرج، وكانت الحروب لا تنقطع بينهما
قبل أن يعتنقوا الإسلام، فصالح الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما، ونزع
الله من قلوبهم العداوة والكراهية، وحل محلها الحب والمودة والوئام.
المؤاخاة:
والآن
بعد أن استقر المهاجرون، وصلح حال الأنصار، بقي أن يندمجوا سويًّا فيصبحوا
أخوة مسلمين، فلا فرق بين مهاجر وأنصاري، لذلك آخى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بينهم فجعل لكل مهاجر أخًا من الأنصار، فأبو بكر الصديق أخ
لخارجة بن زهير، وعمر بن الخطاب أخ لعتبان بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف أخ
لسعد بن الربيع، ولم تكن الأخوة مجرد كلمة تقال، بل طبقها المسلمون تطبيقًا
فعليًّا فهذا سعد بن الربيع الأنصاري يأخذ أخاه
عبد الرحمن بن عوف،
ويعرض عليه أن يعطيه نصف ما يملك، ولكن عبد الرحمن بن عوف يشكره ويقول له:
بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دُلَّني على السوق، وذهب عبدالرحمن إليه
فربح وأكل من عمل يده. _[البخاري].
ولم يقتصر ذلك على سعد بن الربيع بل
فعله كثير من الصحابة حتى إنه كان يرث بعضهم بعضًا بناءً على هذه الإخوة،
فيرث المهاجر أخاه الأنصاري، ويرث الأنصاري أخاه المهاجر، وظلوا على ذلك
حتى جعل الله التوارث بين ذوي الأرحام، وقد أثنى الله -عز وجل- على
المهاجرين والأنصار، فقال تعالى: {للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من
ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك
هم الصادقون . والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم
ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} _[الحشر: 8-9].
وجمعهم الله سبحانه
في آية واحدة، فقال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله
والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقًّا لهم مغفرة ورزق كريم}
[الأنفال: 74] وفي هذا المجتمع الآمن المستقر، حيث يحب كل مسلم أخاه، أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أمور دينهم فيدعوهم إلى كل خير،
وينهاهم عن كل شر، وهم ينفذون ذلك راضين سعداء بهداية الله لهم، ووجود رسول
الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وبدأ الناس يتوافدون إلى المدينة، معلنين
إسلامهم وانضمامهم لهذه الدولة المنظمة.
اليهود في المدينة:
وكان
يسكن مع المسلمين في المدينة اليهود وبعض المشركين الذين يحقدون على
الإسلام، ويكرهون قيام دولته، لذلك وضع الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدة
تنظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم حتى يأمن مكر الكفار، وهذه بعض المبادئ
التي احتوتها المعاهدة:
1-المهاجرون والأنصار أمة من دون الناس يتعاونون فيما بينهم، وهم يد واحدة على من عاداهم.
2-دماؤهم محفوظة، فلا يقتل مؤمن مؤمنًا، ولا ينصر مؤمن كافرًا على أخيه المؤمن.
3-لليهود حريتهم الدينية فلا يُجبرون على الإسلام.
4-اليهود الذين يسكنون المدينة يشاركون في الدفاع عنها، ولا يعينون أعداء الإسلام، ولا ينصرونهم.
5-كل ظالم أو آثم أو متهاون خائن لا ينفذ ما في هذا العهد عليه اللعنة والغضب، ويقوم الآخرون بحربه.
6-إذا حدث خلاف في أي أمر، فإن الحكم هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهكذا
وضَّح الرسول صلى الله عليه وسلم حقوق كل طائفة في المدينة وواجباتها،
ورسم المنهج الذي يتعاملون به بكل أمانة وعدل، فلم يظلم اليهود بل حفظ لهم
حقوقهم، ورغم ذلك أظهر اليهود وجههم القبيح، وكراهيتهم للرسول صلى الله
عليه وسلم رغم علمهم أنه صادق، واتضح ذلك في موقفهم من عبدالله بن سلام
عندما أسلم.
فقد كان عبد الله بن سلام من علماء اليهود، ومن ساداتهم،
فلما أسلم كتم إسلامه، ولم يخبر اليهود، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم
أن يسألهم عنه أولاً، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (أي
رجل فيكم ابن سلام؟) قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا،
فقال: (أفرأيتم إن أسلم؟) فقالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (يابن سلام، اخرج عليهم) فخرج فقال لهم: (يا معشر
يهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله،
وأنه جاء بالحق) فقالوا: كذبت. [البخاري].
وهكذا كانت عداوة اليهود
للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين واضحة منذ أول يوم في المدينة رغم أنهم
يعرفون أنه رسول الله حقًّا وصدقًا، وقد اشتدوا في تكذيب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وإظهار حقدهم عليه عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى
الكعبة، وظهرت سفاهة عقولهم واضحة حين تشاوروا فيما بينهم، واتفقوا أن
يؤمنوا بدين الله أول النهار، ويكفروا في آخره حتى يسعى الناس إلى تقليدهم،
والسير على خطاهم، ولكن الله فضحهم بكفرهم في كتابه الحكيم، وأظهر حقدهم
على المسلمين بعد تآلف قلوب أهل المدينة من الأوس والخزرج، وسعيهم إلى
الوقيعة فيما بينهم، ولكنهم لم يفلحوا في ذلك.
زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة:
وبعد
ثمانية أشهر من الهجرة كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنهى بناء
المسجد، واستقر المسلمون في المدينة، فأتم الرسول صلى الله عليه وسلم زواجه
بالسيدة عائشة ودخل بها، وكان قد عقد عليها قبل الهجرة، وكان الرسول
صلى
الله عليه وسلم بعد زواجه منها يقدرها، ويفضلها، فعن عمرو بن العاص قال:
قلت يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: (عائشة) قلت: ومن الرجال؟ قال:
(أبوها) _[الترمذي].