الحمد لله رب الذي لا إله إلا هو،الذي استحق المحامد كلها بكمال وجوده وغناه عما سواه، وتفضُّله بنعمة الإيجاد لسائر المحدثات. والشكر لله الذي إذا شكره الإنسان على نعمه، وجب عليه شكر جديد على أن جعله قادرا على شكره.
والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تمت هداية الناس أجمعين على يديه.
اللهم وفقنا يا الله إلى معرفتك ، واجعل فينا القدرة على الارتقاء في هذا الوجود بعبادتك والاستجابة لشرعك.
وبعدُ
فاعلم أن الإنسان في هذا الوجود لا ينفك عن الاعتقاد، أي لا ينفك عن أن يعتقد بصحة أمر وبفساد أمر.
ولا يمكن للإنسان أن يسير في هذا الوجود بدون هذا. لأنه لو جاز هذا لجاز عادة أن يبقى الإنسان حيَّاً من دون أن يفعل فعلا ما.
وهذا باطل قطعا، ويتضح هذا البطلان بمجرد تصور الحالة المذكورة. وتفصيلها أن الإنسان في بعض الجوانب من حياته مريد لما يكون منه، وهذا الأمر يدرك بالضرورة بالتفرقة بين حركة الارتعاش واختيارك تفاحة من بين عدة حبات من التفاح.وكون الإنسان مريدا يعني أنه يرجح أمرا على أمر،
ومن المعلوم انه يستحيل ترجيح بين أمرين بدون مرجح.
وهذا المرجح الذي تعتمد عليه الإرادة هو الفكرة التي يعتقد بها الإنسان في نفسه،
وهذه الفكرة قد تكون نتيجة تفكير عقلي أو شعور عضوي وجداني أو غريزي أو غير هذا، وبغض النظر عن مصدر هذه الفكرة أو هذا العقد، فلا بد من التسليم بوجوده، وهذا هو المطلوب.
فثبت فعلا أن الإنسان لا ينفك عن عقد تتكيف نفسه به، وتصدر منه الأفعال على وَفق هذا العقد المذكور،ولا حاجة بنا إلى القول بأن العقد يجب أن يكون ثابتا لا يتغير أو يجوز كونه متغيرا ، فالحاصل على كلا الوجهين أنه لا بد من ذلك العقد.
إذا سلم لنا ذلك فإننا نقول:
إن الإنسان إذا رفع رأسه إلى السماء ، ورأى سعة الموجودات وتعددها واتساقها في نظام معين لا تتعداه،ثم نظر فيما حوله ورأى موجودات من أشجار وحيوانات وجمادات وغيره من البشر، وأدرك احتياجه إليهم واحتياجهم إليه، وعرف أنه لا تتم له حقيقة الوجود المتزن إلا بالانسجام معها على وفق نظام معين اختيارا أو كرها، كما هي الكواكب وسائر الموجودات، ثم نظر في ذاته، ورأى جسمه الكثيف وأدرك أنه جاهل بكثير من أعضاء هذا الجسم وحقيقته، وكيفية ارتباط أجزائه ببعضها واتفاقها على وظيفة معينة، ولاحظ بعد ذلك أن هناك أمرا واحدا لا يخفى عليه، وهُوَ هُوَ ذاته، فالإنسان إذا تجرد من هذا الجسم وحاول تركيز عقله في التفكير بذاته، كما لو تصور أنه يطير في عدم بلا جسم ولا أعضاء، فإنه يجزم عند ذاك أنه عارف بذاته لا يشك بوجود نفسه.
إذا فكر الإنسان بهذا الأسلوب ، فإنا ندعي أنه لا يمكن أن ينفك عن السؤال من أين أتيت وإلى أين المصير وماذا أفعل في هذا الوجود، وكذلك فإنه يتساءل عن بقية أفراد الجنس البشري.
وندعي أيضا أن الإنسان إذا وصل إلى هذه المرحلة من التفكير فإنه لا يمكن أن تطمئن نفسه وتصفو من كدوراتها إلا بالإجابة على هذه الأسئلة.والجواب عليها يكون ضرورة لا يمكن الانفكاك عنها عند الشعور بها.
وندعي أن الجواب الجازم على هذه الأسئلة لا يمكن أن يكون جزئيا أو مرحليا، لأن السؤال ليس عن جزئي ولا عن زمان معين ولا عن مكان نعين، بل الجواب يجب أن يكون كليا شاملا،
وكذا لا يمكن أن يكون الجواب قائما على الاحتمال أو الأخذ بالأحوط، لأن هذه أجوبة لأسئلة تبدأ بكيف وتبحث عن وسيلة لعمل ما، ومطلوب هذه الأسئلة هو العلم بأصل هذا الوجود وهدفه، وهذا حقيقة لا يتم إلا بالجزم والقطع.
ويلزم من هذه الأمور، أن الإنسان إذا حصل على هذه الأجوبة وأدركها وعقد نفسه عليها، يلزمه أن لا يفعل فعلا إلا بناءا على ضوئها واسترشادا بها، لأنه في هذه الحالة يكون في طريق تحصيل كمال وجوده،ولا يمكن لإنسان إذا اعتقد أن كماله لا يحصل إلا بهذا الطريق أن يسير في طريق غيره إلا من لا يُعَدُّ من العقلاء.
ولهذا كان من الطبيعي أن يكون كل إنسان يفعل فعلا معتقدا أنَّ هذا هو طريق سعادته ولهذا فهو يفعله.
وهذه إشارة إلى أن الإنسان لا يمكن أن ينفصل عن الاعتقاد بفكرة. وأما من يؤمن أن طريق سعادته وكماله مع كمال وسعادة الوجود كله إنما يكون بحسب طريق معين، وهو يخالف هذا الطريق، فهذا لا يلتفت إليه إذ لا يعد من العقلاء في هذا المجال.
إذن انحصر الكلام في العلم ولو على سبيل الإجمال بأصل الوجود، أو على الأصح العلم بمقدار يكفي لبناء فكرة كلية عن هذا الوجود.
وذلك لأن المطلوب الذي وصلنا إليه هو سعادة وخير الإنسان بل الوجود كله،هذا لا يتم بالنسبة للإنسان إلا بالعمل، والإنسان لا ينسب إليه العمل إلا إذا أراده، نقصد العمل الاختياري، وإرادته يجب أن تكون متناغمة مع أصل وغاية هذا الوجود، إذن لا بدَّ من العلم بطريق صيرورة الوجود، حتى يصح لنا إرادة الانسجام معه، فالعلم ضروري.
وقد يصير الكلام بعد هذا في أن العلم بهذا الأمر هل هو ممكن فعلا، إذ قد نتصور أمرا واجبا ولا نستطيع الوصول إليه،
فالجواب على هذا: أن أصل العلم ممكن ، ولا يمكن لإنسان منع أصل علم الإنسان، أي لا يمكن لأحد أن يقول إننا لا يمكننا العلم بأمر مطلقا، فهذا الكلام تنقضه الضرورة والتجربة والعقل ،إذ يحس كل إنسان في نفسه أنه يعلم بعض الأمور ويكون جازما أن علمه هذا صحيح ومطابق. ويكون فعلا كذلك.
ما دام أصل العلم قد ثبت ، فنقول لا يشترط لإمكان العلم بالشيء عقلا إلا وجود عاقل، أي موجود قابل لأن يعلم،وتميز المعلوم في نفسه،ولا شرط ثالث غيرهما.
وهذان ثابتان في حالتنا ، فالإنسان قابل لأن يعلم، والمطلوب العلم به متميز وهو الوجود الذي هو الموجود، فكل موجود يتميز عن غيره بأمور والوجود يتميز عن العدم ، إذ لو لم يحصل التمايز لصار العدم والوجود واحدا، وهذا باطل فالوجود غير العدم. ولو لم يتميز موجود عن موجود لصار الوجود واحدا وحدة مطلقة لا تعدد فيها بوجه من الوجوه، وهذا باطل بالحس والعقل.
ما دام أصل العلم قد ثبت فنقول:
إما أن نكون عالمين منذ أول وجودنا أو لا نكون، وباطل أن نكون عالمين منذ أول وجودنا فوجب أن يكون علمنا فينا زائدا على أصل وجودنا، ولا يخلو الأمر بعد هذا عن احتمالين:
إما أن يكون العلم الذي نحصل عليه بالضرورة أي علما ضروريا
أو مكتسبا،
ونقصد بالضروري ما لا نستطيع الانفكاك عنه ولو توقف على شرطٍ.
وهذا النوع من العلم جائز عقلا وواقع فعلا لا شك فيه،
فالعلم بأن الجزء أقل من الكل ضروري لا يمكن الانفكاك عنه، ويحصل فينا بأدنى التفات بعد وجود مفهوم الجزء والكل،
وأما العلم الاكتسابي فهو مقابل الضروري السابق ، والتسليم بوقوعه أيضا واجب ، وذلك أنه لو كانت كل علومنا ضرورية لما كنا طالبين للعلم بأمر، إذ الفرض أننا نعلمه، إذن ثبت وجود نوعين من العلم أو درجتين على الأصح.
فيما سبق سلمنا أن الوجود متعدد،
ولكن يوجد بين أفراد الوجود علائق فهذان أمران قطعيان ،
فأما الأول فبين،
وأما الثاني فلأننا نلاحظ اعتماد كل موجود على آخر ولو من ناحية معينة، كما أشرنا في أول الكلام ،
فالإنسان لا يمكن أن يهمل العلاقة بينه وبين مجموع البشر، ولا بينه وبين غيره من الموجودات، إذ وجوده معتمد على وجودها،وما دام ثبت لنا هذان الأمران فلا يمكن إنكار إمكان العلم بهما، ولذا فالعلم ان تعلق بموجود مع قطع النظر عن علاقته بغيره، فهذا العلم يطلق عليه تصور،وإن تعلق بوجود من حيث علاقته بغيره فهذا تصديق، فالتصور إدراك مفرد، أي إدراك الموجود من حيث هو فرد منفرد عن غيره. والتصديق إدراك نسبة، أي نسبة أمر لأمر ، ولا يمكن حصول إدراك النسبة من دون تصور طرفيها ، أي المنسوب إليه والمنسوب. ويطلق على التصديق الحكم.
وسبق أن قلنا أن العلم يأتينا من الخارج، ولا نعني أنه كله يأتي من الخارج، بل يمكن أن يكون أصله من الخارج وهو لازم عن النفس، وذلك ممكن لأن النفس العالمة إنما هي بالنسبة إلى غيرها خارج كما أن غيرها بالنسبة إليها خارج،فيوجد اشتراك بينها وبين غيرها، ولهذا فإنها إذا علمت أمرا عن الخارج عن غير طريق الخارج فالمراد أنها علمته من حيث إنها عالمة بنفسها لأنها هي أصلا خارج. أي يوجد اشتراك ما بينها وبين الخارج.
وبهذا ثبت أن هناك مصدران للعلم :
حقيقة الأول النفس من حيث هي عاقلة،
والثاني لا بد أن يكون أمرا غير النفس يوصل إليها ما لا بدَّ لها منه، فيكون واسطة بينها وبين الخارج، وهو ما نطلق عليه اسم الحواس الظاهرة.
فثبت طريقان للعلم :
الأول النفس وهي الذات،
والثاني الحسُّ.
ويمكن بعد هذا أن نجزم أن النفس من حيث هي عاقلة فلا يمكن أن تعلم أمرا عن الخارج إلا عن طريق الحس،
ولو علمت عن غير طريق الحس الظاهر فعن طريق الحس الباطن تعلم.
وبعد هذا الكلام عن العلم، يلزمنا أن ننظر فيه لا من حيث ماهيته كما هو، لأننا هنا لا يهمنا أن نعلم كيفية العلم بقدر ما يهمنا أن نعلم كيف نصل إلى العلم.
وهذا المطلب يكفي فيه أن نعرف متى يحصل فينا العلم عند نظرنا في أمر ما، ومتى لا يحصل.
أول أمر نشاهده من أنفسنا ومن غيرنا أن الذي يدعي أنه عالم لا بد أن يكون جازما بما تعلق به علمه، ولا يكون قابلا للشك فيه، وهذا يدرك بالبداهة، فمجرد الشك في ما نقول أنه علم ينفي كونه علما، فالعلم إذن يجب أن يكون قطعيا .
ثم بعد هذا نقول:
إن كل أحد يصل إلى العلم بأمر لا يمكنه أن يتجاهله كأن يغير علمه بواسطة الإرادة إلى لا علم، فالعلم لا دخل له بالإرادة، بل الإرادة هي التي تعتمد على العلم، وهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يريد عكس ما يعلم ويمكن أن يريد ما يعلم، ولكن نقول يمكنه أن يحب ما يعلم أو لا يحب، ويمكن أن يحب ما لا يعلم، وهذا الأمر مهم جدا فليس كل ما نحبه فهو حق، بل كل حق فيجب أن نحبه، ولكن لا يعني هذا الوجوب أن يحصل في الواقع،وذلك لأنه يعتمد تحققه على الإرادة.
من هذا يمكن أن نقول أن العلوم كلها ضرورية، بمعنى إذا حصلت في الإنسان فإنه لا يمكنه أن يغيرها بإرادته، وأيضا يمكن أن نقول أن الإنسان إذا علم أمرا فلا يحتاج إلى أحد لكي يقول له معلما ودالا: إنك علمت هذا الأمر بل هو بمجرد حصول العلم فيه فإنه يعلم أنه عالم بهذا الأمر ، وهذا ما يمكن إن نطلق عليه أن كاشفية العلم ذاتية، أي إننا نعلم إننا علمنا بنفس علمنا،
فالخلاصة أن أي أمر نعلمه أو أي علم يحصل فينا، فإنه يكشف عن شيئين:
الأول:ذاته،
الثاني: ما تعلق هو به.
وهذه الأوصاف التي تلازم العلم مفيدة جدا وهي في غاية الأهمية إذ سوف تفيدنا في توسيع دائرة الوسائل التي نكشف بها عن حصول العلم أو عدم حصوله.
وذلك كأن نقول: مطلق الخبر يمكن أن يفيد العلم ويمكن ان يفيد الظن ويمكن أن لا يفيدهما.وإمكان إفادة الخبر للعلم يكون إثباته ممكنا بالعقل فيقال:
أي إنسان يشعر من نفسه أنه يحس بأمور في وجدانه ويتصور صورا في خياله، ويحصل على أحكام في عقله، فإنه يجزم أنه يمكن أن يوصل هذه الأمور التي يشعر بها إلى غيره عن طريق الكلام، الذي يعم اللفظ والفعل مطلقا، أو نقول لا ريب أنك تشعر ولو في بعض الأحيان أنك تخبر غيرك عن واقع، وذلك بغض النظر هل يصدقك أو لا، فهذا الأمر ليس ضروريا بيانه وتحليله الآن، ولا يستطيع إنسان أن يخالفه فهو ضروري، فنقول ما دام يمكن أن تخبر أنت غيرك بأمر يكون حقا وصدقا في الخارج موجود أو في نفسك، فهل يستحيل أن يخبرك غيرك بأمر يكون هو في حد ذاته صدقا وحقاً.
من الواضح الجلي أنه يمكن من غيرك كما يمكن منك، فلا فرق من هذا الجانب ، فيجوز القياس فالأمثال لها نفس الأحكام، وما جاز على أمر فيجوز على مثله، إذن يمكن أن يكون الخبر صادقا كما يمكن أن يكون كاذبا،
فالمسألة الآن هي كيف يكن أن نستدل على الخبر الصادق من غيره.
بناءا على هذا فلا تعدو أن تكون الدلالة على صدق الخبر إما من ذات الخبر أو من غيره، ويستحيل الأول لأن الخبر ذاته محتمل كما قلنا فدلالته على الصدق كدلالته على الكذب أو هو لا دلالة فيه أصلا.
إذن لا يبقى إلا أن تكون الدلالة من خارجه،كما لو فرضنا الآن فرضا سندلل فيما يأتي على إمكانه، كوجود إنسان لا يقول إلا الصدق، فإنه ينتج إن كل ما يخبر به فهو حق، وهذا هو خبر الرسول المؤيد بالمعجزة على كونه رسولا، فهو مع أنه خبر واحد، إلا أنه يفيد الصدق لدليل خارج عن كونه واحدا، وهو المعجزة، وهي أمر غير عادي يظهر على يد من يدعي النبوة مقرونا بالتحدي، وسيأتي الكلام عليها بالتفصيل في محل قادم. ويمكن الآن لنا أن نعمم المعنى السابق فنقول: خبر الواحد مطلقا يمكن أن يفيد العلم أو الظن إذا احتفت به القرائن الخارجة عن كونه واحدا.ومن خبر الواحد الذي يفيد العلم بالقرائن خبر الرسول من حيث هو مؤيد بالمعجزة كما مر.
أثبتنا فيما مضى إمكانية إفادة الخبر للصدق، وهذا ضروري أو يكاد يكون بديهيا، ونعلم أن هذه الإمكانية لا بد أن تكون راجعة إلى وصف، وهذا الوصف إما أن يكون راجعا للمخبر به، وهو ما يدعى بالخبر عند الناس، أو المخبِر -بكسر الباء- أو المخبَر-بفتحها-، وهو السامع للخبر،وواضح أنه لا يمكن أن يرجع إلى ذات الخبر، لأن الخبر ليس فيه من ذاته إلا الإمكانية، ولو أفاد خبر علما لذاته، لأفاد كل خبر العلم.وهو باطل. وأما إذا قيل إن المخبر به إذا كان بديهيا كقولك الواحد نصف الإثنين، فإنه يفيد العلم عندذاك، أي إن السامع له يكتسب العلم عند سماعه. لأنا نقول:إننا لا نخالف في أن السامع يكتسب العلم عند سماعه المخبر به ولكن لا مدخلية في ذلك أي في اكتساب العلم لمجرد المخبر به،أي لو أورد السامع هذه العبارة على ذهنه من دون سبق سماع لها من غيره لاكتسب العلم أيضا، ومنه نعرف أن اكتسابه العلم لا مدخلية لكونها خبرا ، بل إن هذا ضروري من ضروريات العقول.ولو لم يكن خبر. لأن النفس تعلم هذا الأمر حقا من ذاتها، ولا تحتاج إلى خبر مخبر للعلم بذاك.
وكذا لا يمكن أن يعود إلى السامع، لأنه يلزم حينذاك أن لا يكون مدخل للمخبر به من حيث كونه كذلك في إفادة العلم. أي لا مدخل للخبر من حيث كونه خبرا في ذلك.
وأما أن يعود إلى المخبِر، فهو الحق، لأنه الكلام لا يصير خبرا إلا بواسطة المخبر، فإن الكلام يكون أولا في نفسه ثم يصدر إلى العالم الخارجي بواسطة أصوات وحروف،أو غير ذلك من الوسائل، ودلالات وأحوال متعلقة بالخبر.
وأما أن يعود إلى وصف مشترك بين المخبر والمُخبِر فهو ممكن فلا يصح إلا بأن يقال : يشترط للمخبر به أن يكون ممكنا في ذاته، فتكون مدخلية المخبر به على سبيل الشرطية أو او الإعداد فقط، وبحثنا فهو عن ما يكون داخلا على سبيل السبب. إذن فيلزم أن يكون السبب هو فقط المخبر.
إذن تحقق أن إفادة الخبر للعلم إنما هو راجع إلى المخبر نفسه، فلا بد إذن من أن يكون المخبر متصفا بصفة تؤثر في هذه الإفادة.
ونحن هنا لا نريد أن نذكر تفصيل ما يقال على هذه الصفة أو الصفات، فله محل آخر، ولكنا نقتصر على إشارات كافية.
فنقول : كل إنسان لا بد أن يعلم بوجود صفة اسمها الصدق أو العدالة أو الضبط والثقة، وهذه الصفة -العدالة- لها وجود في نفسها أي إنها ليست اعتبارا عقليا فقط،وليست هي عبارة عن تخيل ذهني وأمر موهوم، أو عائدة إلى شهوة قطعا، والعدالة لها قيمتها الواقعية التي لا يمكن الاستغناء عنها. وحاصل هذا الوصف أنه عبارة عن تقدير مدى كون الشخص مطابقا في أفعاله وأقواله للواقع الخارجي، ولا شك أن هذا أمر يمكن قياسه، والتأكد منه، واتصاف الشخص بهذا فرع عن اتصافة بالقدرة على العلم أولا، ثم القدرة على الإخبار عما يعلم وكون خبره مطابقا لما يعلمه هو، ولا شك أن هذا الأمر أي الإخبار يتعلق قطعا بالإرادة، وذلك لأن الإخبار أمر إرادي، فلو أراد الإنسان أن يكون خبره مطابقا للواقع، فيمكنه ذلك، ولو أراد غير ذلك فيمكنه ذلك أيضا. والإرادة موجودة فيه، فالصدق والكذب إذن لهما وجود في نفس الأمر. لا ينكر هذا منكر.
ولا ريب أن هناك تفاوتا في هذه الصفة بين إنسان وآخر، فالذي عرف عنه الكذب لو اخبرنا خبرا، فإننا لا نصدقه، نعم قد لا نكذبه ، ولكن لا يكون علينا تصديقه، لأن ميلنا إلى تكذيبه يكون أكبر. فلو جاء أكثر من واحد معروف عنهم الكذب وأخبرونا بخبر، فلا شك أن هذا يزيد من ضعف الخبر ، ويقلل من نسبة كونه مطابقا للخارج عندنا. وبنفس الأسلوب نتكلم عن الصادق، فإننا نميل إلى تصديقه وإن لم نجزم بمطابقة خبره للواقع في الخارج، ولكن كلما ازداد عدد الذين يخبروننا عن أمر، فإن هذا يزيد من درجة توثيق الخبر عندنا، أي حكمنا عليه أنه مطابق للخارج،وكلما ازداد عدد الرواة يزداد هذا الأمر،حتى نصل إلى مرحلة لا يكون مُهِمَّـا عندها السؤال عن عدالة الشخص أو عدم عدالته ، بل لا نلتفت فيها إلا إلى أن العدد من المخبرين قد بلغ حدا يبعد معه أن يكونوا مخطئين أو يكونوا متفقين على الكذب، وعند ذاك يحدث في نفوسنا الجزم بأن هذا الخبر صادق حتما، ولا يمكن أن يكون كاذبا،وهذا الحد الذي أشرنا إليه هو التواتر، وهو لا يتوقف على عدد أو كيف، بل هو عبارة عن مجموعة من القرائن الماضية ومن غيرها، بالإضافة إلى شروط قبلية لا بد من توفرها في أي خبر لكي يكون خبرا يحتمل الإفادة، وهو أن لا يكون مستحيلا عقلا، فلو كان مستحيلا عقلا لرفضناه من الأصل.
مما مضى نعلم أن الخبر المتواتر يفيد العلم، والخبر الواحد المحفوف بالقرائن يفيد العلم، وهذان مصدران مهمان جدا للعلم أو هما نوعان لمصدر واحد هو مطلق الخبر.
لو نظرنا في أنفسنا لأدرك كل واحد أنه متصف بصفات وجودية، أي لها وجود حقيقي وصفات سلبية أي عبارة عن سلب ما يضاد ويخالف الماهية، وكل واحد منا يدرك أنه يتصف بالإدراك ، فالإدراك في كل واحد موجود. وكل واحد منا يدرك أنه يتصف بالإدراك، فالإدراك في كل واحد موجود،ولا يمكن لأحد أن ينكر وجوده فيه، وحقيقة الإدراك راجعة إلى انكشاف وجود ما ، وهذا الانكشاف هو في حقيقته راجع إلى انفعال بالوجود أو بوجود ، والوجود الواحد بالذات يمكن أن ينفعل بذاته إذا كان متعدد الجهات، وهذا لا يلزم عنه اتحاد القابل والفاعل، أو فليلزم ولكن لا ضرر لأنه يكون من جهتين لا من جهة واحدة.
إذا تم لنا ذلك، فالنفس تعلم بأمور معينة حتى لو لم يكن لها حس خارجي، وذلك لأن النفس لها وجود ما، ولها قابلية العلم، فهي تعلم بذاتها من حيث وجودها، أي بعض صفات وجودها، ولا تعلم بجميع جهات وجودها، لعدم تمامه فلا يتم الانعكاس الكلي.
وهذا الأمر قليل من يتنبه إليه، وهو في غاية الأهمية، وهذا العلم الحاصل من جهة ما النفس شاعرة بوجودها هو أصل المعلومات البديهية والضرورية، ولبداهته قد يُغفل عن حصوله زائدا عن الذات من حيث هي ذات، فيتصور أنه من مكونات الذات ولهذا قد ينكره البعض لأول وهلة، مع ضرورته، وإنكارهم هذا عائد إلى عدم تجردهم كفاية لفهم ما يقال هنا، فإن تجردوا قليلا من غفلتهم وعلائقهم أيقنوا بما نقول أنه الحق.
وإذا لاحظنا بالإضافة إلى ذلك وجود الحس الظاهر، وهو الحس الخارجي، أي الحس الذي يدرك به الخارج من الأجسام أو الأجسام التي هي خارجة عن النفس، وذلك أن النفس تحتاج حال كونها متعلقة بالجسد إلى واسطة بها تعلم ا يدور في عالم الأجسام وهذه الواسطة هي الحواس الظاهرة وهي الخمسة المعلومة.
أقول: إذا لاحظنا بعض المعلومات الضرورية الأخرى مثل وجود بعض الموجودات ، فلا يمكن أن يتوهم إنسان أن الآثار التي تحدث فيه بمجرد أن يفتح عينيه بوجود الضوء هي من غير سبب لأنها حادثة، بمعنى أنها إذا لم تكن موجودة فيه ثم وجدت فلا بد لوجودها من سبب، وهذا السبب لا يمكن أن يكون نفس ذاتك، لأن ذاتك موجودة قبل فتح العين وبعدها، ولكن الأثر لم يوجد إلا بعد فتح العين، فلو كانت ذاتك هي السبب لحصل الأثر قبل فتح العين أيضا. إذن الذات ليست هي مصدر العلم بل هي التي حصل فيها العلم.
فهل سبب العلم هو العين فقط، نقول: العين لها مدخلية ما في حصول هذا العلم، ولكن هذه المدخلية ليست على سبيل المُسَبِّبيَّة ، بل على سبيل الشرطية، لأن هذا هو المتيقن حتى الآن لملاحظتنا وجود العلم بعد فتح العين، أي إن العين شرط في وجود هذا العلم في هذه الحال، لا أكثر من ذلك، فالعين داخلة في الذات، فكأننا نقول إن الذات بوجود العين تكون متأهلة لأن تنفعل بالخارج هذا الانفعال، وهذا هو معنى شرطية العين لحصول هذا النوع من العلم في الذات.
فالسبب الرئيسي إذن -السبب هنا ظاهريا- هو الخارج لأنه لا يوجد غيره حسب الحصر والاستقراء العقلي كما مرَّ، ومعلوم بداهة أن المعدوم لا يمكن أن يوجد شيئا، وبما أن الأمر الذي حصل في النفس موجود، وسببه موجود، هو الخارج ولو من حيثية ما ، إذن هذا دليل على وجود الخارج ولو بحيثية ما، وهذه الحيثية ذكرناها هنا لأن الدليل الذي ذكرناه لا يدلنا إلا على إثبات وجود ما، لا على الوجود المتكثر ، ونفس هذا الكلام يمكن أن يقال على بقية الحواس.
ويمكن إثبات كيف أن الحواس شرط في العلم وليست سببا له بغير هذه الطريقة أيضا.
ويجب أن تلاحظ أن هذه الشرطية ليست عقلية، أي إننا لم ندرك اشتراطها بمجرد العقل، بل أيضا بملاحظة طبيعة الوجود الذي نتحدث في محيطه، لا بمطلق الوجود. ولذا يطلق على هذه الشرطية أنها شرطية عادية لا شرطية عقلية، بمعنى أننا أدركنا شرطية الحس للعلم عند ملاحظة هذا الوجود المعين لا عند إدراكنا فقط لمطلق معنى العلم.وهذا القيد في غاية الأهمية، ويجب ذكره هنا، كثير من الذين يبحثون في هذا الموضوع يهملونه، وهذه غفلة منهم. وهم عندما يغفلونه يعممون الحكم بعد ذلك ويقولون إننا لا يمكننا أن نرى بمعنى لا يمكن أن يحدث فينا هذا النوع من العلم الذي نسميه الرؤية إلا إذا فتحنا أعيننا ووجد الشعاع وغير هذه من الشروط العادية، وهذا الحصر الذي يذكرونه لا دليل لهم عليه ، بل كل ما يمكنهم قوله هنا هو إننا عندما نفتح عيوننا تحدث الرؤية، ولا دليل على أنه لا يمكن ان تحدث الرؤية إلا عند الفتح، ولا يجوز للخائض في المعقولات والباحث عن اليقين أن يعمم الحكم هكذا ويغفل عن القيود التي يبحث فيها أي في محيطها.بل يب عليه أن يظل مستحضرا لها على سبيل الدوام، وإلا اختلت أحكامه التي يطلقها . وهذه الحيثية هي قيد في غاية الأهمية، وسوف نعرج نحن عليها في محل آخر قريبا، وهي تفيدنا جدا في توسيع نظرية المعرفة ومن ثم في مجال معرفتنا. والذي يغفلها يحدد عقليته وعرفته بيده، أي بخطأ ارتكبه هو في غفلته عن قيد ما. وهذا يعني وجود الإمكانية عقلا لحصول الرؤية ولو لم تكن العين موجودة، وحتى لو كانت موجودة ولم تكن الشروط من المقابلة والشعاع وغيرها موجودة, فلا تنس هذا.
وأيضا فكل ما قلناه هنا من أن الشرطية هي شرطية عادية، فإننا نقوله أيضا عن كون الشعاع الذي ارتطم بعيننا وتبع هذا الارتطام الإحساس، سببا عاديا أيضا، لأننا عرفنا مدخليته هذه في الإحساس عن طريق اعتيادنا على هذا الوجود، لا لمجرد تعقلنا مطلق الوجود، وإلا لأدركنا هذا الترابط قبل ذلك، أي لأدركنا هذا الترابط منذ معرفتنا لوجود ذاتنا، لما يتضمنه هذا من معرفة أصل الوجود،ولكن لما احتجنا بعد ذلك إلى معرفة وجود العين وفتحها وما تلوناه عليك قبلا، لنعرف مدخلية العين والشعاع في الإحساس، علمنا أن هذه المدخلية ليست مطلقا على سبيل السببية العقلية، بل هي فقط سببية عادية.
فأعلى القوانين هي تلك التي تعرفها عن طريق العقل بمجرد ملاحظة أصل الوجود ، لأن هذه القوانين تنطبق على جميع مراتب الموجودات بعد ذلك ، لتحقق أصل الوجود فيها، وبالتالي تتحقق فيها قوانين الوجود،فمثلا امتناع كون الشيء موجودا ومعدوما في آنٍ واحد هوأمر مستحيل في أصل الوجود وكذلك هو مستحيل في سائر الموجودات.
وكون الموجود إذا كان له سبب فيجب أن يكون محتاجا إلى مسبب، هذا قانون تام في أصل الوجود، فكذلك ينطبق على جميع مراتب الوجودات من الأجسام والأعراض وغيرها.
وأيضا يقال ما لم يكن له سبب فهو واجب الوجود، وما كان واجب الوجود، فيستحيل أن يكون محتاجا إلى غيره، ويستحيل أن يوجد فيه أي يستحيل أن يتصف بأي صفة يلزم النقص عنها، لأن النقص يستلزم الاحتياج، والاحتياج يناقض الوجوب.
كل هذا الكلام عام ينطبق على جميع الأمور المتصورة أي التي يمكن أن يحكم عليها العقل.
ولنعد إلى ما كنا نتكلم فيه، وهو مبادئ المعرفة مطلقا، فنقول: بعدما تقرر عرفنا أن الواحد منا يمكنه أن يعرف شيئا ما ويجزم بأنه يعرفه، ولا يحتاج إلى غيره لكي يقوله له أنه قد عرف.
وعلمنا أنه يوجد عدة وسائل للمعرفة وذلك فقط من تحليل ما نجده في أنفسنا من أمور قريبة كما سبق ذكره.
وقد يتساءل القارئ عن العقل ما هو، وكيف يجوز أن نستند إليه في المعرفة، وهل ما يعطينا إياه العقل من معلومات يمكن أن نطمئن إليه، ونبني عليه الواجبات العملية، وهذا السؤال من أعمق الأسئلة ولا أظن أننا في حالة نتأهل بها من الإجابة عليه، أو قد نفعل ولكن قد لا يكون جوابنا قاطعا لأنه ليس كاشفا بعد عن الحقيقة في هذا المجال.
ولذلك فإننا لن نكتفي فقط بما توصلنا إليه من معلومات في هذا المجال، ولكن سوف نستعين بما علمه العلماء ونبني عليه، واعتمادنا على ما يذكرونه لن يكون مجرد تقليد لهم ، أي إننا لن نأخذ بما قالوه ونسلمه لهم حتى دون فحصه بناءا على ما نعرفه من معارف، بل سوف نتأكد من كل ما قالوه بطرق عديدة للفحص، فما لا يدرك جله، لا يترك كله.والله المستعان.