ضباط يوليو كانوا أبطال ثورة، أما ضباط المجلس العسكرى
فإنهم حراس شرعية، فرق كبير جدا بين الفريقين، ولهذا فالفارق شاسع بين
الطريقتين فى حكم مصر خصوصا فى مرحلة انتقالية.
أولا: جمال عبد الناصر ورفاقه كانوا مشتغلين بالسياسة
ومهمومين بها وانضموا إلى تنظيمات وأحزاب وجمعيات سياسية قبل الثورة، بعضهم
كانوا أعضاء بالفعل سواء فى جماعة الإخوان المسلمين أو حركة «مصر الفتاة»
أو المنظمات الشيوعية، جمال عبد الناصر نفسه مر عضوا على بعض هذه التنظيمات
من الإخوان حتى الشيوعيين، لم يكن فاعلا فيهم لكنه كان عارفا دارسا مشاركا
فاهما، ثم إنه كان يكلف بعض الضباط فى تنظيمه بالانضمام إلى هذه الجمعيات
والتيارات حتى يكون له ولتنظيم الضباط الأحرار يد فى كل ركن فى عالم
السياسة، أنور السادات كذلك كان صاحب خبرة سياسية عميقة وصاحب سوابق وسجينا
سياسيا لفترة، وهذا ينطبق على كثر من أعضاء الضباط الأحرار، إضافة إلى أن
عبد الناصر كان مثقفا كبيرا وقارئا نهما ودفتر استعارته فى المكتبة كان
ممتلئا وحافلا. أما جنرالات المجلس العسكرى فلا علاقة لهم بالسياسة ولم
يقتربوا منها وحياتهم هى الوظيفة والمهمة، فليس لهم الخبرة ولا الدراية ولا
المعرفة بها، بل هم ينفرون من السياسة وينزعجون جدا من السياسيين، ويبدو
كذلك أنهم لا يملكون فى دواخلهم احتراما للسياسة وللسياسيين أصلا!
ثانيا: ضباط يوليو كانوا صناع ثورة، من اللحظة الأولى كانوا
يعرفون ماذا يريدون، خططوا له ودبروا، دفعوا ثمنا من حياتهم واستعدوا لدفع
حياتهم نفسها ثمنا لحلمهم بالتغيير، وتدرج الحلم من إنهاء الفساد
والاستبداد والملكية إلى إقامة الجمهورية إلى بناء الاشتراكية، وبصرف النظر
عن اتفاقنا أو اختلافنا مع الحلم فإنهم كانوا يملكون موقفا ورسالة لتشكيل
وصياغة مصر جديدة ومختلفة، وسواء نجحوا أو فشلوا، بنوا أو هدموا، فإنهم
فعلوا!
إما جنرالات المجلس العسكرى فليسوا ثوريين أبدا وربما حتى
ليسوا إصلاحيين، عاشوا حياة وظيفية هادئة ومشوا فى طريقهم الميرى يخدمون
بلدهم وينفذون أوامر قياداتهم، لم يفكروا فى أى لحظة فى لعب دور أبعد من
مهمتهم فى حماية وأمن البلاد القومى، من هنا فليس لديهم الحماس للتغيير ولا
يملكون الحميّة فى إجرائه ولا الإيقاع السريع ولا الروح المتوهج للمستقبل،
بل العكس، هم محافظون ميالون إلى الثبات والاستقرار وشديدو الالتزام
بالبطء ومؤمنون بالتمهل والتروى!
ثالثا: ضباط يوليو كانوا صغارا فى السن، فأكبرهم فى الرابعة
والثلاثين من عمره، وهم شباب بمقاييس زماننا يمتلئون طاقة ورغبة فى
المغامرة وإقداما على التغيير واستعدادا لقبول الجديد وإقبالا على التجديد
وإحساسا بأن المستقبل أمامهم والدنيا متسعة أمام عيونهم، ثم إنهم سريعو
الحركة ومتسرعون أحيانا، يكوّنون وطنا فى الوقت الذى يكوّنون فيه أسرة
وعائلة، كان عبد الناصر يحكم مصر وهو لا يزال ينجب طفلا وكان يتزعم أمة ولا
يزال ابنه يدخل المدرسة، أما جنرالات المجلس العسكرى فإنهم فى الستين
والسبعين من أعمارهم، يشعرون أن المستقبل وراءهم، وليس لديهم بحكم السن
والوظيفة روح المغامرة ولا رغبة المخاطرة، ويبتلعون بصعوبة الجديد، ويجزعون
من التجديد، ويميلون إلى بقاء الوضع على ما هو عليه، وهم أجداد لديهم
أحفاد لا أطفال، مما يجعل روح الجد هى التى تطغى على طريقة تعاملهم مع
الشباب، والجد يحب جدا حفيده، لكنه لا يفهمه!
رابعا: ضباط يوليو جاؤوا من الطبقة المتوسطة الصغيرة (بعضهم
من أبناء عائلات غنية لكن ليست بالمعنى الإقطاعى إطلاقا)، والطبقة
المتوسطة هى نفس الطبقة التى خرج منها جنرالات المجلس العسكرى تقريبا،
لكنهم بحكم العمل الطويل والخدمة الممتدة فى القوات المسلحة ووصولهم إلى
هذه الرتب الكبيرة واختلاف الوضع المادى للضابط بين مرحلة يوليو 52 وفبراير
2011 صاروا أنفسهم من الطبقة المتوسطة العليا، وهو موضوع يفرق فى
الاختيارات والانحيازات الاقتصادية وفى النظرة إلى الواقع وفى درجة وحرارة
الاقتراب من هموم القاعدة الواسعة من الشعب!
خامسا: ضباط يوليو لم يتعاملوا أو يتعاونوا مع سلطة ولا
دخلوا عالم البروتوكولات والاجتماعات مع الملوك والرؤساء، وكانت نظرتهم قبل
الثورة إلى السلطة نظرة معارض، ومن بعيد، لا يشارك فيها على أى نحو ولا
يرتبط معها بأى دور ولا يطيقها ولا يحتمل تصرفاتها، أما جنرالات المجلس
العسكرى فكانوا جزءا من النظام وتعاملوا مع رئيسه كمرؤوسين وموظفين وقدموا
للسلطة احترامهم وطاعتهم باعتبارها الشرعية والقيادة العليا، صحيح أنهم فى
لحظة انحازوا (بالحياد) ضد هذه السلطة، لكن يبقى أن الأثر باقٍ، وقد ترك
بصماته ولا شك، فأن تدير شؤون البلد قادما من ركن فى النظام شىء، وأن تحكمه
وأنت صاعد من مقاعد المعارضة والتمرد عليه شىء آخر!
سادسا: ضباط يوليو كانوا ضباطا أحرارا من السلطة والوظيفة
وأحرارا من الفكر القديم وثقافة الاستقرار والثبات وأحرارا بناءً على العمر
والسن، جنرالات المجلس العسكرى ضباط بالتأكيد لكنهم ليسوا أحرارا من
وظائفهم وطريقة التفكير والتصرف التى تعلموها وتدربوا عليها وعاشوا بها كل
سنوات خدمتهم.
أخيرا: لهذا كله قاد ضباط يوليو انقلابا حولوه ثورة، وأدار ضباط المجلس العسكرى ثورة لم تعد تحمل عندهم من الثورية إلا اسمها تقريبا!