حق الوالدين على الأبناء
يحيى بن موسى الزهراني
المقدمة
الحمد
لله الذي قرن طاعته بطاعة الوالدين ، وألزم حقوقه بحقوق الوالدين ، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الواحد الفرد الصمد ، الواهب الماجد ،
وأشهد أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ، الذي حث الأبناء وأمرهم ببر
الوالدين ، وحذرهم ورهبهم من مغبة العقوق ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين . . أما بعد :
فحق الوالدين على الأبناء لا يستطيع
أن يحصيه إنسان ، فهما سبب وجود الأبناء والبنات بعد الله عزوجل ، ولن
يستطيع الأبناء أن يحصوا ما لاقاه الأبوان من تعب ونصب وأذىً ، وسهر وقيام ،
وقلة راحة وعدم اطمئنان من أجل راحة الأبناء والبنات وفي سبيل رعايتهم ،
والعناية بهم ، فسهر بالليل ، ونصب بالنهار، ورعاية واهتمام بالتنظيف في كل
وقت وحين ، وحماية من الحر والبرد والمرض ، وتعهد وتفقد لحالة الأبناء من
جوع وشبع ، وعطش وروى ، وتحسس لما يؤلمهم فهما يقومان بالعناية بالابن أشد
عناية ، فيراقبان تحركاته وسكناته ، ومشيه وجلوسه ، وضحكه وعبوسه ، وصحته
ومرضه ، يفرحان لفرحه ، ويحزنان لحزنه ، ويمرضان لمرضه ، فالأم حملت وليدها
تسعة أشهر في الغالب تعاني به في تلك الأشهر ما تعاني من آلام و مرض ووهن
وثقل ، فإذا آن وقت المخاض والولادة ، شاهدت الموت ، وقاست من الآلام ما
الله به عليم ، فتارة تموت ، وتارة تنجو ، وياليت الألم والتعب ينتهي
بالوضع لكان الأمر سهلاً يسيراً ، ولكن يكثر التعب والنصب ويشتد بعده ،
فحملته كرهاً ووضعته كرهاً .
فتذبل الأم وتضعف لمرض وليديها وفلذة
كبدها وتغيب بسمتها إن غابت ضحكته ، وتذرف دموعها إذا اشتد به المرض والوعك
، وتحرم نفسها الطعام والشراب ، إن صام طفلها عن لبنها ، بل وتلقي بنفسها
في النار لتنقذ وليدها ، وتتحمل من الذل والشقاء أمثال الجبال كي يحيا
ويسعد وتموت راضية إذا اشتد عوده وصلب ، ولو كان ذلك على حساب صحتها وقوتها
وسعادتها .
ترى الحياة نوراً عندما ترى طفلها
ووليدها وفلذة كبدها مع الصبيان يلعب ، أو إلى المدرسة يذهب ، وهي تعيش
اللحظات الحاسمة في حياته عندما تنتظر تفوقه ونجاحه ، وتخرجه وزواجه ، ثم
بعد أن يشب ويشق طريقه في هذه الحياة تنتظر الأم بكل شوق ولهف ماذا سيكون
جزاء الأعمال التي قدمتها له ؟ بماذا سيكافئها من أجل تضحياتها وجهودها
وآلامها ؟ هل سيكون جزاء الإحسان هو الإحسان ؟ أم سيذهب كل ذلك أدراج
الرياح ؟ ويكون جزاء الإحسان هو النكران ؟ .
هذه هي الأم التي أوصى النبي(صلى الله عليه وسلم) ثلاث مرات بها عندما سأله رجل من يبَر ، فلها ثلاثة أضعاف حق الوالد ، ولذلك جعل الله الجنة تحت قدميها .
والوالد ! وما أدراك ما الوالد ؟ ذلك
الرجل الذي يكد ويتعب ، ويجد ويلهث ، ويروح ويغدو من أجل راحة ابنه
وسعادته ، فالابن لا يحب بعد أمه إلا أباه الذي إذا دخل هش وبش به ، ولعب
معه ومرح ، وإن خرج تعلق به ، وبكى من أجله وصرخ ، وإذا حضر قعد على حجره ،
مستنداً على صدره ، وإذا غاب سأل عنه وانتظره بكل شوق وحب ، فإذا رضي
الوالد أعطى ولده ما يريد ، وإذا غضب أدبه بالآداب الشرعية ، أدبه بالمعروف
من غير عنف ولا إحراج .
ولكن ؟ وللأسف فسُرعان ما
ينسى ذلك الابن الجحود ينسى الجميل وينكر المعروف ذلك الابن المغرور ،
فعصيان بالليل وتمرد بالنهار ، وعقوق للوالدين جهاراً نهاراً ، واعلم أن
طاعة الوالدين واجبة بكتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى : {
وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }[النساء36] ،وقال (صلى الله عليه وسلم) :(( رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف ، من أدرك أبويه عند الكبر ، أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة ))[مسلم] ( وذلك كناية عن الذل وإلصاق الأنف بالتراب هواناً ) .ولن يكافئ الولد والديه على ما قاما به من رعاية وتربيه إلا كما قال (صلى الله عليه وسلم): (( لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه )) [مسلم] .
فاللهم حبب إلينا والدينا ، وأعطف
عليهما قلوبنا ، واجعلنا نرأف بهما ونبرهما ونرد لهما بعض ما قدماه لنا من
إحسان ، واللهم ارحمهما واغفر لهما وسامحهما واجعل الجنة مآلهما ، ولا تضيع
أجرهما إنك على كل شئ قدير .
وللوالدين على الأبناء حقوقاً كثيرة
لا تعد ولا تحصى مكافئة لما قاما به من مساعٍ حميدة من أجل راحة الأبناء ،
وتنشأتهم تنشأة إسلامية ، راجين بذلك ما عند الله والدار الآخرة ، ثم راجين
من الله تعالى حسن الرعاية من أبنائهما إثر تربيتهما لهم ، ومن هذه الحقوق
:
1- بر الوالدين :
لقد حث الإسلام ، هذا الدين الحنيف الصالح لكل زمان ومكان على بر الوالدين في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه(صلى الله عليه وسلم) لما لهما من فضل وحقوق على الأبناء ، فقال جل من قائل سبحانه :{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً }[ العنكبوت 8]، وقال تعالى :{
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ }[لقمان 14]فهي
أي الأم في تعب وجُهد من قبل الولادة ثم أثناءها ثم بعدها، وكذلك الأب
يسهر لتعب الابن ويحزن لمرضه ، ويقلق ويخاف عليه أثناء غيابه ، فاستحقا
بذلك البر بهما ، فهما - أي الأبوان- ربيا أطفالهما صغاراً واعتنوا بهما
كباراً، فاستحقا بذلك الشكر والبر جزاء ما قدما وقاما به من حسن التربية
والتنشئة ، واستحقا البر جزاءً موفوراً ، فبر الوالدين واجب وفريضة على
الأبناء ، وفي برهما أجر كبير وثواب عظيم ، فبرهما من أفضل الأعمال وحقهما
هو الحق الثالث بعد حق الله تعالى وحق نبيه (صلى الله عليه وسلم)
وبر الوالدين مقدم على بر غيرهما من
الناس ، سواءً الأولاد أو الزوجة أو الأصدقاء أو الأقرباء ، أوغير أولئك من
الناس ، بر الوالدين مقدم على أولئك جميعاً .
وبر الوالدين يكون بكل ما تصل إليه يد الأبناء من طعام وشراب وملبس وعلاج وكل ما يحتاجانه من خدمة وبر ومعروف قال تعالى {
وَوَصَّيْنَا
الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً
وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى
إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى
وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(15)
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ(16) }[ الأحقاف 15/16] .وعن أبي عبد الرحمن عبدالله بن مسعود(رضى الله عنه) قال : سألت النبي(صلى الله عليه وسلم) : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال :(( الصلاة على وقتها ))قلت ثم أي ؟ قال :(( بر الوالدين ))قلت ثم أي ؟ قال : (( الجهاد في سبيل الله))[ متفق عليه] .
فجعل رسول الله(صلى الله عليه وسلم)
، بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله ، وما ذاك إلا لعظم حقهما على
أبنائهما ، فالأم حملت ووضعت وأرضعت وأطعمت وسقت وسهرت وتعبت ، فكان لبنها
الغذاء والطعام ، وحجرها المرقد والمنام ، والأب يعطي وينفق ويعمل ليل نهار
من أجل توفير المسكن والملبس والمطعم والمشرب فوجب برهما ، ومن برهما
الإنفاق عليهما ، وشراء الطعام والشراب الذي يشتهيانه لهما ، وإدخال الفرح
والسرور عليهما ولو كان ذلك على حساب الأبناء ، ومساعدتهما في كل ما
يحتاجانه من أعمال ، ومن برهما أن لا يجلس الابن وأبواه واقفان ، وأن لا
يمشي أمامهما ، ولا يركب السيارة حتى يركب أبوه وأمه قبله ، ويساعدهما في
النزول والقعود والنهوض والوقوف إذا احتاجا إلى ذلك ، ويجلس معهما حال
مرضهما ويسعى جاهداً لعلاجهما ، ولا يبخل عليهما بمال ولا وقت ، ولا يدخر
جهداً في إرضائهما ، ويحثهما على الدعاء له في كل وقت وحين ، ويدعوا هو
لهما لعل الله أن يرحمها بكثرة دعاءه لهما ، قال تعالى : {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً(14) } [ مريم 14 ] أثنى الله عز وجل على يحيى على السلام لبره بوالديه .
وقال تعالى :{ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} [ مريم 32] وذكر الله تعالى عيسى عليه السلام وماله من صفات وهبها الله إياه ومنّ بها عليه ، وذكر منها بره بوالدته .
ومهما قدم الأبناء من بر لوالديهم فلن يوفوهم حقوقهم لأن لهما قدم السبق في ذلك ، عن أبي هريرة(رضى الله عنه) قال : قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ((إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه )) [ مسلم] .
وعن أنس(رضى الله عنه)، أن رسول (صلى الله عليه وسلم) قال : (( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه )) [ متفق عليه] .
فالحديث يدل على أن صلة
الرحم سبب في توسيع الرزق وزيادته وكثرة طرق الخير وأبوابه ، وزيادة في
العمر وطول الأجل ، ومن أوكد وألزم صلة الرحم بر الوالدين ، فبرهما سبب
لبسط الرزق وزيادته ، وطول العمر وامتداده ، وعقوقهما سبب لقلة الرزق وضيق
المعيشة ، وقصر الأجل وسوء الخاتمة ، قال(صلى الله عليه وسلم): (( من سره أن يمد له في عمره ويزاد في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه )) [ أحمد ] .
وعن عبدالله بن عمر قال : (( رضا الرب في رضا الوالد ، وسخط الرب في سخط الوالد )) [ رواه البخاري في صحيح الأدب المفرد ] وقال الألباني رحمه الله تعالى ، حسن موقوفاً ، وصحيح مرفوعاً .
وقال بن عباس :( إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة ) [ صحيح الأدب المفرد ] .
وفي الأدب المفرد للبخاري من حديث عبدالله بن عمر أن رجلاً جاء إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) يبايعه على الهجرة ، وترك أبويه يبكيان ، فقال : (( ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما )) .
فانظر
كيف حث الشارع على احترام الوالدين وبرهما فلم يؤذن لذلك الرجل بالهجرة
حتى يضحكهما وهذا والله من كمال هذا الدين الحنيف ، دين الإسلام العظيم ،
ومن رحمة سيد الخلق بالآباء والأمهات ، وأكثر ما يحتاج الوالدين إلى
الأبناء عند كبرهما وطعنهما في السن ، فيحتاجان من أبنائهما البر ، بل أشد
البر ، وأوفى الكيل ، وأعطف الحال ، وأطيب الكلام ، في هذه السن المتقدمة ،
فيجب برهما ومساعدتهما على الأكل والشرب والنوم والاستيقاظ ، والنهوض
والجلوس ، واللبس والخلع ، والخروج والدخول ، بل حتى لو احتاج الأمر إلى أن
يدخلهما المرحاض ويزيل الأذى عنهما لوجب عليه ذلك .
ويحتاجان
في هذه السنة المتأخرة من العمر إلى مزيد الإنفاق عليهما ، لعدم قدرتهما
على العمل واستحصال ما تقوم به حياتهما من أكل وشرب ولبس وغير ذلك من
مقومات الحياة ، فوجب الإنفاق عليهما دون تردد أو تكاسل ، أو بخل أو شح .
قال(صلى الله عليه وسلم) : (( لا يسأل رجل مولاه من فضل هو عنده فيمنعه إياه ، إلا دعي له يوم القيامة فضله الذي منعه شجاع أقرع )) [ أبو داود وهو حسن ] ،
فإذا سأل الوالدان الابن فضلا يملكه من ماله فلا يتأخر ولايتكلكل ويتململ ،
بل يسرع إلى طلبهما وإعطائهما ما يحتاجانه من ذلك الفضل ، وإن لم يفعل ذلك
مثل له يوم القيامة ذلك المال الذي يبخل به ثعباناً ذهب شعر رأسه من شدة
السم .
كانت
تلك جملاً من بعض بر الأبناء بالوالدين ، أما العقوق - أعاذنا الله جميعاً
منه - فإنه محرم ، ممقوت صاحبه ، متوعد بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة ،
وهو مقرب للنيران ، ومبعد عن الجنان .
فهذا القاسي
القلب ، الجاحد الناكر ، الشقي النفس، الخبيث الطباع، المتحجر الضمير، الذي
يريد كل شيء لنفسه فكل همه أن يأخذ ولا يعطي، ويُخدم ولا يَخدم، يطيب
كلامه مع الناس، ويسوء مع والديه، يتحبب ويتودد إلى الناس، ويتنكر لوالديه،
يتبسم في وجوه الآخرين ويعبس في وجه والديه، ويختار الأحجار الكلامية
والنابية لوالديه، وينظر إليهما بعين الجحود، ويتصرف مع والديه بوحشيه
وهمجية وبأمور تسلطية تعسفية ، فإذا سمع هذا العاق لوالديه منهما مالا
يرضيه، يذل أمه ويبكيها ويبطش بأبيه ويرميه ويعز زوجته ويرضيها، إذا حصل
شجار بين الأبوين والزوجة أسرع إلى إرضاء زوجته، وخطأ والديه وأشبعهما سباً
وركلاً، يأكل وزوجته ويجوع والداه، يشتري لزوجته أفخر الملابس وأغلاها
وأحسنها، وإذا وجد مع أمه قميصاً أو قميصين اتهمها بالتبذير والبذخ، يكرم
زوجته، ويهين أمه المسكينة التي حملته اشهراً عدة، صامت ليأكل، وعطشت
ليروى، وقامت ليقعد، وسهرت لينام، وحزنت ليفرح، ثم قابل ذلك كله بالجحود
والعقوق ، قال( r ): (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ )) (ثلاثا) ، قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : (( الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وجلس وكان متكئاً ألا وقول الزور )) فما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت [ الأدب المفرد وهو صحيح ] .
فحال هذا العاق مع والده، حال
محزنة، فإذا وقف أبوه جلس هو ومد رجليه، وإذا ناقش أبوه أظهر له علمه هو
وجهل أبيه، يناديه والده فلا يجيب، ويأمره فلا يطيع، وإن أعان والديه بمال
تكبر واستعلى يدير ظهره لأبويه وهو يكلمهما، تراه راكباً سيارته وأبوه واقف
أمامه يخاطبه، يهرب من أبويه الفقيرين لا يمد لهما يد المساعدة والعون،
ويوم يصبح ذا منصب وشوكة ومكانة ويكلمه أبوه أمام الناس صب عليه جام غضبه ،
وأشبعه من اللعنات ، وأوسعه باللكمات ، يبتعد عن والديه أميالاً حتى لا
يقول الناس هذان أبوا ذلك الرجل، ولم يعلم ذلك العاق أن دمعة الأبوين
المظلومين بسبب ظلم الأبناء تقع من الله بمكان ، ويجعلها على العاقين ناراً
ووبالاً ، فرضى الله من رضاهما، وسخطه سبحانه من سخطهما والظلم ظلمات يوم
القيامة، قال تعالى : { وَالَّذِي قَالَ
لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ
الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ(17)
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ
مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ(18)} [ الأحقاف17/18 ] .
وقال تعالى :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا
قَوْلاً كَرِيماً(23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً(24)} [ الإسراء23/24 ] .
قال r : (( من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا : يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال : (( نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه )) [ متفق عليه ] .
وقال r : (( لعن الله من لعن والديه)) [ صحيح الأدب المفرد ] .
ففي الأحاديث السالفة الذكر الوعيد الشديد لمن عق والديه أو أساء إليهما ولو بالإشارة ولو بأقل كلمة وهي ( أف ) ، فيحرم عقوقهما أو سبهما أو شتمهما أو إهانتهما، ويحرم إلحاق الأذى بهما .
فأين أولئك الطغاة الظلمة ؟ أين أولئك
القساة العاقين ؟ عن تلك الآيات والأحاديث الصحاح ، والتي أمر الله فيها
ببر الوالدين والإحسان إليهما ورهب وخوف من عقوقهما ، وألزم وأوجب برهما
وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، فهما أقرب الرحم للرجل قال تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(23)} [ محمد 22-23] .
وقال تعالى :{
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25) }[ الرعد 25 ] .
فأخبر الله
سبحانه أن العقوق من أكبر الكبائر، وقطيعة الرحم تدل على العقوق لأن
الوالدين من الرحم بل أقرب الرحم للرجل والمرأة، لهذا استحق العاق لوالديه
اللعنة من الله عز وجل، واللعن : يعني الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى،
وقد توعد الله عز وجل العاق بالعقوبة الشديدة يوم القيامة وهي سوء العاقبة
فتكون عاقبة العاق يوم القيامة عاقبة وخيمة وهو ملعون مطرود من رحمة ربه -
ولا حول ولا قوة إلا بالله – واعلم أن العقوق دين ، فكما يدين الإنسان
يُدان، فمن عق والديه عقه أبناؤه عندما يكون في أمس الحاجة لهم في كبره،
فلا يجد منهم إلا اللعن والشتم والضرب والطرد بل وقد يقذفون به في دار
العجزة حتى يلقى حتفه، هذا هو الجزاء الأرضي لمن عق والديه أن يعقه أبناؤه،
قال r : (( برَّوا إباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم ))[ الطبراني بإسناد جيد ] .
وإليك أيها الابن وأيتها البنت هذه الأحاديث التي تنفر من عقوق الوالدين وترهب من ذلك وتخوف منه ، ومنها :
أخرج النسائي والبزار واللفظ له باسنادين جيدين والحاكم ، وقال صحيح الإسناد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله r قال:
(( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، العاق لوالديه، ومد من الخمر،
والمنان عطاءَه وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه، والديوث، والرجلة من
النساء)) .
وأخرج أحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وقال صحيح الإسناد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله r قال : (( ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة، مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر الخبث في أهله )) .
وقال r :(( كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات))[ رواه البخاري في الأدب المفرد بمعناه، والطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك ] .
ومن أقبح العقوق وأشنعه أن يترفع
الولد على والديه ويتكبر عليهما، فربما سُئل هذا العاق عن والده فقال : هذا
السائق، أو الخادم أو الطباخ، وربما سألت هذه العاقة عن أمها فقالت : هذه
الخادمة، أو هذه الفراشة ـ نعوذ بالله من الانتكاسة وعمى البصيرة ـ .
وفيما ذكرت من الأدلة الحاثة على بر
الوالدين ، والمحذرة من عقوقهما كفاية، وذلك لمن أراد العبرة والاعتبار،
والعظة والاتعاظ ، فترى البار بوالديه محبوب لدى الناس ، محبب إلى القلوب،
مقرب إلى النفوس ، يتمنى الناس وده والقرب منه، ويتأهب الجميع لمساعدته إذا
وقع في ضيق أو حرج .
أما العاق لوالديه، فإن الله يبغضه
ويسخط عليه فلذلك لا قبول له في الدنيا، لا محب له من الناس، الجميع ينفر
منه ويهرب عنه، فهو شر وقد يلحق شره غيره .
2- الإحسان إليهما :
لقد أمر المولى جل شأنه في عدد من آيات القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين وعدم التأفف من ذلك، فقال تعالى :{
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ
كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا
قَوْلاً كَرِيماً(23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً(24)} [ الإسراء23/24 ] وقال تعالى : {
وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ النساء 36 ] .فقد ألزم الله وأمر وأوجب ألا
يُعبد غيره، وأن يُحسن إلى الوالدين إحساناً تاماً غير ناقص، إحساناً ملؤه
الوفاء ورد الجميل، لأنهما سبب الوجود والتربية فلا إنعام بعد إنعام الله
تعالى أعظم من إنعام الوالدين، فهما لا يطلبان إنعاماً ولا ثواباً من
أبنائهما، لما يتميزون به من عفة النفس والسؤدد فما يقومان به وما يقدمانه
بغير عوض، فلا يطلبان جزاءً ولا شكوراً، ولكن ذلك واجب على الأبناء { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [ الرحمن60 ] فالوالدان لا يقطعان عن أبنائهما موارد الكرم ولو كان الابن غير بار، وهذا واضح مجرب ملموس .
وهما يريدان أن يكون الابن بأعلى
المراتب والمناصب وذلك من غاية شفقتهما على الولد، فهما لا يحسدان ولدهما
إذا كان أفضل منهما بل يتمنيان له ولاخوته مزيد الرفعة والعلو في هذه
الدنيا والآخرة، فكان من حقهما على أبنائهما الإحسان إليهما بكل ما يصل بيد
الابن من خير يستطيع تقديمه لهما خصوصاً إذا كبر أحدهما أو كبر الاثنان،
فيجب العناية بهما ورعايتهما، فإذا وصلا إلى حال الضعف والكبر والعجز وصارا
عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوله، وجب عليك أن تحنوا عليهما
وتشفق عليهما وتتلطف لهما، وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه، على أن
الفضل لهما أولاً وآخراً بعد الله عز وجل .
ومن الإحسان إليهما عدم التأفف من شئ
تراه أو تشمه من أحدهما أو منهما مما يتأذى به الناس ولكن اصبر على ذلك
وأحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا كما صبرا عليك في صغرك، وأحذر الضجر
والملل قليلاً أو كثيراً، وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع اجر من
أحسن عملاً0
ومن الإحسان إليهما أن لا تنقص عليهما
ولا تكدرهما بكلام أو فعل لا يرضيانه، ولا تزجرهما ولا ترفع صوتك فوق
صوتهما، ولا تخالفهما على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما، فإن فعلت ذلك
فابشر بالخير الجزيل من الكريم الجليل .
ومن الإحسان إليهما مخاطبتهما بلطف
واختيار الكلام الحسن الطيب المقرون بالاحترام والتواضع لهما ولين الجانب،
وأحذر أن تحدق بعينيك في وجههما فإن ذلك من العقوق، أرشدهما وعلمهما الخير
والإحسان والدين إذا كان جاهلين ببعض الأحكام، أرشدهما بالأدب والمرؤة0
خاطبهما بلطف ولا تدعوهما بأسمائهما
ولكن قل، يا أبي، يا أمي، يا والدي، يا والدتي، وانظر إليهما بعين الرأفة
والرحمة والتواضع، فإن فعلت ذلك فإنك من المحسنين بإذن رب العالمين .
ومن الإحسان إليهما أن تدعو لهما بالرحمة، كما قال تعالى : { وقل رب أرحمهما كما ربياني صغيراً }
وأي شئ يرجوه الإنسان بعد رحمة الله له، فوجب عليك أيها الابن أن تدعو
لهما بالرحمة من الله تعالى لما بذلاه من جهد وتعب معك من قبل الولادة إلى
أن أصبحت شاباً يافعاً فيا ليت شعري، أين شباب اليوم من البر والإحسان
بالوالدين، ولا أقول إلا اللهم لا تجعلنا بأبنائنا أشقياء، وارزقنا ذرية
صالحة تنفعنا في الدنيا والآخرة، واجعلنا بارين بآبائنا محسنين إليهما،
واجعل أبنائنا بارين بنا محسنين إلينا، فإنك أنت الجواد الكريم .
جاء رجل إلى النبي r يستأذنه في الجهاد فقال r : (( أحي والداك ؟)) قال : نعم، قال : (( ففيهما فجاهد)) [ متفق عليه ] .
وفي رواية لهما : أقبل رجل إلى النبي r فقال : أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى، قال: (( فهل من والديك أحد حي ؟)) قال: نعم بل كلاهما، قال : (( فتبتغي الأجر من الله تعالى ؟)) قال: نعم، قال: (( فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) [ متفق عليه ] .
وإني والله !
لأتسائل أين الشباب والشابات في هذا الزمان عن هذين الحديثين ؟ أين الأبناء
والبنات عن حقوق الوالدين؟ والله إنه تضييع وتفريط لا مثيل له ولا شبيه،
ولا ند له ولا نظير ، وما ذاك إلا بسبب الابتعاد عن الدين والعكوف على
الخليع من القنوات والفضائيات والإنترنت، حتى أصبح أولئك الشباب لا يفرقون
بين القريب والبعيد، بين الوالدين وغيرهما، فلا يرى الوالدان من الأبناء
إلا كل جفاء، ولا يسمعون إلا أصواتاً كالرعد القاصف، ألفاظاً نابية وكلمات
حقيرة مدوية، فلعن وسب، وشتم وقذف .
فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أنا نعوذ بك من ولد يشيبنا قبل المشيب ، أو يكون علينا وبالاً ، أين أولئك العاقين عن قول النبي r : (( الوالد أوسط أبواب الجنة)) ؟ [ الترمذي وابن ماجه بسند صحيح ] .
وقال r : (( رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما))
فأي فلاح وأي
نجاح يرجوه أولئك العاقون لوالديهم فوالله لا فلاح لهم ولا رفعة إلا
بالإحسان إلى الوالدين والبر بهما وطاعتهما فيما يأمران وفيما ينهيان ، فقد
أخبر بذلك نبي الهدى والرحمة عليه أفضل الصلاة وأتم السلام بقوله :(( من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه، فليبر والديه وليصل رحمه)) [ أحمد ] ولا شك أن من الإحسان إلى الوالدين برهما وصلة رحمهما وغير ذلك من أمر البر والصلة .
3- طاعة الوالدين :
ومما
أمر الله به الأبناء طاعة الوالدين في كل ما أمرا به ودعيا إليه ما لم يكن
في ذلك معصية لله عز وجل ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه ،
وفي ذلك قال تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى
أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ
إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ } [ لقمان 15 ] .
فطاعة الوالدين من
أوجب الواجبات ولو كانا كافرين أو فاسقين عاصيين، غير أنه لا طاعة لهما في
معصية الله جل وعلا ، فإذا دعا الأبوان الأبناء إلى أي معصية لله عز وجل أو
لرسوله r فلا
طاعة لهما في ذلك ، وإنما الطاعة بالمعروف ، ويجب لين الجانب لهما
وتعريفهما أن في ذلك معصية توجب غضب الجبار سبحانه ، وإخبارهما بما يدل على
عدم طاعتهما في حال المعصية بما ورد في كتاب الله وسنة نبيه r .
ففي طاعتهما
الخير العظيم ، والأجر الجزيل من الله تعالى في الدنيا والآخرة ، أما
عصيانهما ففيه شر وفساد جسيم ، ووبال كبير ، أيضاً في الدنيا والآخرة ،
وكما ذكرنا أن الطاعة في المعروف ، فطاعة الوالدين واجبة في كل أمر إلا
أمراً فيه معصية .
عن بن عمر رضي
الله عنهما قال : كانت تحتي امرأة وكنت أحبها ، وكان عمر- أي عمر بن الخطاب
والده - يكرهها فقال لي : طلقها : فأبيت ، فأتى عمر t النبي r فذكر ذلك له ، فقال النبي r : (( طلقها)) [ أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح ] .
فعمر بن الخطاب t الخليفة
الراشد الذي وافق القرآن في عدة مواضع لم يأمر ابنه عبدالله بطلاق زوجته
دون سبب شرعي وإنما كان هناك سبب لم يخبر به ابنه فلذلك أمره بطلاقها ،
وأمره r بطاعة والده بطلاقها ، فعمر t كان يرى مالا يراه ابنه فأمره بطلاقها لضعفها في دينها .
فطاعة الوالدين واجبة في كل أمر من الأمور التي يفرضها الإسلام ، فعن أبي الدرداء t قال : أوصاني رسول الله r بتسع : (( ...... وأطع والديك ، وإن أمراك أن تخرج من دنياك ، فاخرج لهما...)) [ رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني ] .
وعن طيلسة بن
مياس قال : كنت مع النجدات - قوم من الحرورية - فأصبت ذنوباً لا أراها إلا
من الكبائر ، فذكرت ذلك لابن عمر قال : ماهي : قلت : كذا وكذا ، قال : ليست
هذه من الكبائر ، هن تسع : ((الإشراك
بالله ، وقتل نسمة ، والفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل
مال اليتيم ، وإلحاد في مسجد ، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق ،
قال لي بن عمر : أتفرق - أتخاف - من النار وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت : أي
والله ، قال : أحي والداك ؟ قلت : عندي أمي ، قال : فوالله لو ألنت لها
الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر )) [ السلسلة الصحيحة ] .
فطاعة الوالدين
سبب لدخول الجنة ، ولذلك قال العلماء إذا أمر الوالدان الابن بطلاق زوجته ،
فإنه لا يجب عليه طاعتهما ولا يكون ذلك من قبيل العصيان أو العقوق لهما ،
إلا أن يكون منها ـ أي الزوجة ـ سوء خلق وأدب نحو الأبوين ، أو ضعف في
دينها بحيث لا تقوم بما أمر الله به من أوامر مثل : أداء الصلوات أو الصيام
أو غير ذلك ، ففي هذه الحالة يتم مناصحتها فإن أطاعت فالحمد لله ، وإن أبت
فلا بد من طاعة الوالدين في طلاقها ، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام أحمد
بن حنبل وسأله ، قال : إن أبي يقول : طلق امرأتك ، وأنا أحبها ، قال : لا
تطلقها ، قال : أليس عمر بن الخطاب أمر ابنه عبدالله أن يطلق امرأته ، قال :
حتى يكون أبوك مثل عمر.
قال الشيخ محمد بن عثيمين في شرحه على رياض الصالحين :
[ لأن عمر نعلم علم اليقين أنه لن يأمر عبدالله بطلاق زوجته إلا لسبب شرعي
، وقد يكون ابن عمر لم يعلمه ، لأنه من المستحيل أن عمر يأمر ابنه بطلاق
زوجته ليفرق بينه وبين زوجته بدون سبب شرعي ، فهذا بعيد] .
وعلى هذا فإذا
أمرك أبوك أو أمك بأن تطلق امرأتك ، وأنت تحبها ، ولم تجد عليها مأخذاً
شرعياً فلا تطلقها ، لأن هذه من الحاجات الخاصة التي لا يتدخل أحد فيها بين
الإنسان وبين زوجته انتهى .
وعن أبي الدرداء t أن رجلاً أتاه قال : إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها ؟ فقال سمعت رسول الله r يقول : (( الوالد أوسط أبواب الجنة ، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه )) [ صحيح أخرجه الترمذي وابن ماجة ] .
ولا يعارض هذا
الحديث الذي قبله وقلنا أنه لايطاع الوالدان في طلاق الزوجة إلا إذا كانت
تؤذي الوالدين بفعل أو كلام قبيح , أو لم تكن تصلي أو كانت عاصيه لزوجها
كخروجها سافرة كاشفة أو ماأشبه ذلك من الأمور المحرمة ولم تنته عن ذلك
الأمر فوجب حينئذ طاعة الوالدين بطلاقها . وطاعة الوالدين وبرهما مقدم على
جميع نوافل الأعمال , ولهذا بوب مسلم في صحيحه باب تقديم بر الوالدين على
التطوع بالصلاة وغيرها , ثم ذكر قصة جريج الراهب وهي كما ذكرها الإمام مسلم
في صحيحه قال : عن أبي هريرة t أنه قال
: وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فقالت
ياجريج فقال يارب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد
أتته وهو يصلي فقالت : ياجريج , فقال : يارب أمي وصلاتي فاقبل على صلاته ,
فانصرفت , فلما كان من الغد أتته وهو يصلي , فقالت : ياجريج , فقال : أي رب
أمي وصلاتي فاقبل على صلاته , فقالت : اللهم لاتمته حتى ينظر إلى وجوه
المومسات ـ يعني الزانيات ـ فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة
بغي يتمثل بحسنها فقالت إن شئتم لأفتننه لكم , قال : فتعرضت له فلم يلتفت
إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت
فلما ولدت قالت : هو من جريج , فأتوه فأنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه
, فقال : ما شأنكم , قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك , فقال : أين
الصبي فجاءوا به , فقال : دعوني حتى أصلي فلما انصرف أتى الصبي فطعن في
بطنه , وقال : ياغلام من أبوك ؟ قال : فلان الراعي , فأقبلوا على جريج
يقبلونه ويتمسحون به وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب, قال : لا أعيدوها من
طين كما كانت ففعلوا .
فانظر كيف أدّى عصيان الوالدين إلى أن أفتتن رجلاً عابداً , عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله r : (( ثلاث دعوات لا ترد : دعوة الوالد لولده ، ودعوة الصائم ، ودعوة المسافر )) [ حسن وهو في صحيح الجامع الصغير وزيادته ] .
وقال r : (( ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن ، دعوة الوالد على ولده ، ودعوة المسافر ، ودعوة المظلوم )) [ حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير ] .
فما أصاب جريج العابد كان بسبب دعوة أمه عليه، فدعوة الوالدين من الدعوات التي يستجاب لصاحبها .
فتجب طاعة الوالدين فيما أمر به ما لم يكن ذلك الأمر معصية، فهما الجنة والنار، من أطاعهما فقد امتثل أمر ربه وأمر رسوله r
بطاعتهما وحصل له مقصود هذه الطاعة من زيادة الخير والرزق وبركة العمر
وزيادته، والفوز بالجنة بإذن الله تعالى، ومن عصاهما فقد عصى الله تبارك
وتعالى واستحق سخطه فهو قريب من النار والعياذ بالله ، وسيقع له مثل ما فعل
بأبويه من أبنائه ، لأن هذا دين كما أخبر بذلك المصطفى r فقال : (( بروا آباءكم تبركم أبناؤكم )) .
فإنه لا سعادة
ولا فوز للإنسان إلا في رضى والديه عنه ، فكم من أناس حُرموا لذة الحياة
الدنيا بسبب عقوق الوالدين وعصيانهما ، فهم من نكد إلى نكد ، ومن مصيبة إلى
أخرى ، فكانت عاقبتهم وخيمة، وخاتمتهم سيئة ، بسبب عقوق للوالدين .
وعلى العكس من ذلك
من بَرَ والديه وأطاعهما وداوم على ذلك ولم يتأفف أو يتضجر من ذلك فاز برضى
ربه سبحانه ، لأن رضى الرب في رضى الوالدين ، وسخطه من سخطهما .
واقرأ ماذا يقول والد لابنه العاق :
غدوتك مـولوداً ومنتـك يافـعا....ً تعل بما أجني عليـك وتنهـل
إذا ليلة ضافتك بالضم لم أبـت....لسـقمك إلا سـاهراً أتملمـل
كأني أنا المطروق دونك بالذي.... طرقت به دوني فعيني تهمـل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها.... لتعلم أن الموت وقت مؤجـل
فلما بلغت السن والغـايـة التي.... إليها مدى ما كنت فيـك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظـة.... كأنك أنـت المنعـم المتفضل
فليتك إذا لم ترع حق أبـوتي.... فعلت كما الجارالمصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن.... عـلي بمال دون مالـك تبخل
فاللهم أجرنا من العقوق ، واجعلنا ممن يقوم بالحقوق .
4- بر الأم مقدم على بر الأب :
الأم
هي التي حملتك في بطنها أشهراً تسعاً في الغالب وتحملت آلام الحمل والوضع
حتى كأنها ترى الموت رأي عين ، ثم قاست وجع الوضع آلاماً جسام ، ثم بعد ذلك
أرضعتك حولين أو أقل ، وتكبدت المشاق والتبعات في رعايتك والعناية بك
وتحملت التعب الكثير في تمريضك والاهتمام بك وكثرة الخدمة والتربية والحنان
والإشفاق عليك .
وهي تسهر الليالي من
أجل راحتك، وتقوم بك حال صراخك، وتحتضنك عند خوفك وقلقك واضطرابك، كانت
تفديك بنفسها من كل شر ومكروه، تجوع هي لتشبع أنت ، وتعطش هي لتروى أنت ،
تسهر هي لتنام أنت .
ثم هي
تحضن صغيرها وتحن عليه وتدفئه في الأيام الباردة خوفاً عليه من الأمراض
الهالكة ، وتقوم بتلطيف الجو له في اليوم الحار خوفاً عليه من ضربة الشمس
وشدتها ، فهي أشد عناية بطفلها من غيرها ولذلك استحقت حقها مضاعفاً ثلاث
مرات على حق الأب، عن أبي هريرة t قال : جاء رجل إلى رسول الله r فقال : يارسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : ((أمك)) قال : ثم من ؟ قال : (( أبوك)) [ متفق عليه ] .
وفي رواية لمسلم : يارسول الله من أحق الناس بحسن الصحبة ؟ قال : (( أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك )) ، فحق الأم مضاعف على حق الأب بثلاثة أضعاف .