قالتها لى حماتى ثم انصرفت مغادرة الصالة وهى تحمل ابنتى «هو فيه حد استفاد
من الثورة غيركو؟» ابتعدت حماتى ووقفتُ أتجول ببصرى فى الصالة بحثا عمّن
تقصد حماتى بـ«غيركو» فلم أجد فى المكان كله سوى العبد لله وجهاز
التليفزيون يبث إعادة نهارية لبرنامج يسرى فودة.
من المؤكد أنها لا
تقصد أشخاصنا، ولكنها تقصدنا بالمعنى المهنى (كاتب صحفى وإعلامى وجهاز
تليفزيون) لكن بالصدفة كان من يمثل هذه التركيبة فى اللحظة التى هبطت فيها
الحكمة صافية على حماتى هو أنا ويسرى.. يسرى من بعد الثورة لا أراه استفاد
شيئا سوى أنه يزداد نحافة يوما بعد يوم بالقدر نفسه الذى تزداد به محبة
الناس له. أما أنا فقد استعدت بعضا من طفولتى، كنت صغيرا عندما أطل من
بلكونة منزلى وأرى شلة من أصدقائى يتجمعون فى الشارع على وشك أن يبدؤوا
تقسيمة كرة كنت أسرع إلى دولابى بمنتهى اللهفة والأدرينالين يتفجر فى كل
مسامى فأرتدى أول ما يقابلنى دون تركيز، ثم أقفز السلالم لأكون بينهم بأسرع
ما يمكن. الآن كلما أطللتُ من بلكونتى ووجدت أكثر من خمسين شخصا يتجمعون
فى الميدان أسرع باللهفة نفسها إلى دولابى فأرتدى ملابسى لأكون بينهم.
لكن
إذا نظرت إلى مدى أوسع من الشخصين اللذين «لقّحت عليهما حماتى» ستجد الأمر
صحيحا، فلم ينمُ فى البلد شىء بعد الثورة إلا المحطات والصحف والمواقع
الإخبارية وكل ما يتبع النشاط الإعلامى، الأنشطة كلها تتراجع بداية من
السياحة مرورا بالشرطة نهاية بالاستثمار وتجارة العقارات، ويبقى الإعلام
يتضخم كل يوم ويلعب دورا، هو الأكبر فى هذه المرحلة.. فالبلد كله يصب فى
الإعلام وأصبح الإعلام كأنه رئيس الجمهورية، فلا معنى لأى نشاط بعيدا عنه.
النضال يصب هناك والعسكر والإسلاميون والفلول والمثقفون والنخبة وشكاوى
الشعب، أصبح الإعلام محلا لاستقبال الدعاوى القضائية، وصار ساحة محكمة أيضا
يوجه الاتهامات ويبرئ ويدين. المليونية التى لا تغطيها الكاميرات فاشلة
وغير حاشدة، والاعتصام الفئوى الذى لا تتابعه برامج التوك شو يصبح عديم
الفائدة، أما الاعتصام الذى تتراص حوله الكاميرات فيورط المسؤولين فى ضرورة
الاستجابة إلى مطالبه. النشطاء الذين يتم خطفهم من قبل جهات غير معلومة
يعودون أسرع كلما زنّت البرامج على أمر اختفائهم. ومشكلات الزبالة والتلوث
والبلطجة تجد طريقا للحل مع الضغط الإعلامى، الناس تعرف مِن أبطال الثورة
فقط مَن وقف أمام كاميرا، وتأخذ قراراتها السياسية بناء على نتيجة
المناظرات والمحاورات، بداية من مرشحى الرئاسة، مرورا بمرشحى البرلمان،
نهاية بمرشحى نقابة المحامين تزداد الشعبية بحجم الحضور التليفزيونى.
الإعلاميون
أنفسهم أصبحوا أكثر شهرة وحضورا من لاعبى الكرة وأصبحت أخبار انتقالهم من
المحطة الفلانية إلى المحطة الفلانية هى الأكثر متابعة وتعليقا على المواقع
الإلكترونية والأكثر سخونة عند مناقشتها على المقاهى، برامج الكرة نفسها
دخلت فى مولد السياسة فأصبحنا نشنف آذاننا كل يوم بنظريات شلبوكة السياسية
التى تنصح المواطنين بأنه (لو فيه مرشح إدالك خمسين جنيه خدهم ده رزق
أولادك بس قدام الصندوق تراعى ربنا وتنتخب اللى يرضى ضميرك).
إذا
أردت أن تقيّم الفترة الانتقالية فلا تكتفِ بتقييم أداء الجيش والقوى
السياسية، قبلهم لا بد أن تقيّم الإعلام لترى ماذا أضاف وكيف أثّر؟ الإعلام
يحفر قنوات داخل الوعى العام ليتدفق الماء من خلالها ولا يخترع هذا الماء،
المشكلة التى يقع فيها كثيرا أنه لا يتوقف أمام نوع الماء المتدفق، وبناء
عليه يختلط كثيرا فى هذه المسارات الماء العذب بماء المجارى وتفقد القدرة
على التمييز بين ما تقدمه لك مدينة الإنتاج الإعلامى ومدينة الإنتاج
الحيوانى!..
ترى حماتى إن ما حدش استفاد من الثورة غيركو وأنا أرى
الجملة حقيقة، لكنها مع إيقاف التنفيذ، حيث إن الثورة نفسها لم تصل بشكل
كاف إلى الإعلام.
