أخبرنا الله في كتابه أن رسولنا الكريم كان يعلم المؤمنين الحكمة. قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} وقال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}
وأن هذه الحكمة منزله من الله تعالى فقال: { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عليكُمْ وَمَا أَنزَلَ عليكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ}
لكن الحكمة ليست خاصية للرسولنا وحدة، فهناك من الأنبياء من أخبرنا الله أنه أوتي الحكمة أيضا. وهم:
(1) داوود عليه السلام. قال تعالى: (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء)
(2) عيسى عليه السلام. قال تعالى ( قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿47﴾ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ)
(3) آل ابراهيم. قال تعالى (أمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)
(ب) هل الحكمة من الممكن أن يؤتيها الله لغير الأنبياء؟؟
هذا محل خلاف ونظر:
والخلاف هنا مكمنه هل "لقمان" نبي أم ولي صالح؟
أما من قال بأنه ليس نبي فلازم قوله بأن الحكمة يؤتيها الله لغير الأنبياء لأن الله قد قال عن لقمان . قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ )
أما من قال بأن "لقمان" نبي، فلا يلزم من قوله أن الحكمة يؤتيها الله غير الأنبياء فيحتمل أنه لا يرى الحكمة لغير الأنبياء وقد يرى ذلك. وليس هذا موضع البحث.
أما لفظ "حكمة" فقد جاء خارج سياق النبوة كسلوك يجب على الشخص أن يتصرف به. كما في قوله تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
فالخطاب هنا موجه إلى الرسول ولكنه حكما عاما من أحكام الدعوة إلى الاسلام وجدال المخالفين، فالدعوة للاسلام يجب أن تكون بالحكمة والموعضة الحسنة والجدال بما هو أحسن. والله اعلم
فالحكمة كـ"سلوك" انساني - رغم أنها صفة من صفات الله - فالله يتصف بالحكمة واسمه "حكيم" الا أننا لا نرى أن أحداً من العلماء أو من العامة لم يستسغ استخدام لفظ "الحكمة" للدلالة على سلوك بشري.
فلا ينكر أحد علي لو قلت أني تعاملت مع الموضوع بحكمة. أو أن أقول لشخص ما "كن حكيما" . فهناك اعتراف ضمني من علماء الدين ومن العامة أن الحكمة كـ"سلوك" بشري موجودة. ولا يُبدَع من يقول بها.
ولكن لا يلزم من كون الحكمة موجودة كسلوك بشري أن تكون هي نفس حكمة الأنبياء أو الأولياء الذين آتاهم الله الحكمة.
فالحكمة البشرية التي يوصف بها سائر الناس هي اجتهاد بشري قابلة للخطأ والصواب. أما الحكمة التي من عند الله فهي لا تقبل الخطأ انما هي حكمة من لدن حكيم.
* بيان خطأ من فسر حكمة رسول الله بانها الكتاب:
أخبرنا الله في أكثر من موضع أن الرسول الأمي أوتي الكتاب وأوتي الحكمة. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}
وقال تعالى: { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عليهمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ}
كما قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ علىكُمْ وَمَا أَنزَلَ علىكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ}
وقد صح عنه أنه قال : ( أَلا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) وهذا صحيح بتأييد القران الكريم فالرسول أوتي الكتاب والحكمة بنص الكتاب.
وقد استدل من فسر الحكمة بالكتاب بقوله تعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَ الحكمةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
وقالوا أن "به" هنا تدل على مفرد "أي تدل على شئ واحد ولا تدل على شيئين" اذ أن الكتاب والحكمة شئ واحد. وهذا قول التبسوا فيه وخفي عليهم . اذ أن الهاء هنا لا تعود على الكتاب والحكمة فلا يعود الضمير "المفرد" على الكتاب والحكمة "المثنى" ولكن الصحيح أن الضمير يعود على ما نزل من الكتاب والحكمة فيكون المعنى: يعضكم الله بما أنزل عليكم.. من الكتاب والحكمة.
*ختاماً
قال الله تعالى : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿268﴾ يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)
إن الحكمة كل الحكمة هي القدرة على تمييز ماهو شيطاني من ماهو رباني. أي التميز بين الشر والخير والخطأ والصواب. فهذه هي والله الحكمة التي من كانت من نصيبة فقد أوتي خيرا عظيما. ولكن لا يعلم ذلك سوى أهل العقول المستنيرة بنور الله وهداه وأهل القلوب الوجلة من عذاب ربها والطامعة بنعيمة السرمدي.