الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :
فرائض الإسلام متنوعة ؛ فالصلاة مفروضة في اليوم والليلة خمس مرات، والصيام شهر في كل عام، والزكاة تجب على من تحققت فيه شروطها مرة في العام، لكن فريضة الحج مرة في العمر ، وما زاد فهو تطوع، ولا شك أن لهذا التنوع حكمة ربانية، وكل فريضة لها أثرها وحكمتها ومجالات تأثيرها بحسب القدر الذي فرضت به، ومن التأسيس على ذلك فللصلاة حكم ومنافع لا تتحقق إلا بهذا القدر من الصلوات، وهكذا الصوم والزكاة، و من هذا المنطلق يمكن القول بأن حكمة الحج وآثاره تكفي المسلم مدى الحياة ؛ لأن فرضه في العمر مرة واحدة، ومن هنا يبرز السؤال موضوع هذا المقال وهو: ما السر في فريضة العمر التي تكفي مرة واحدة ليدوم نفعها ؟!
الحج عبادة شمولية:
الصلاة عبادة بدنية فيها تدبر العقل وخشوع القلب وخضوع الجسد، وفيها انتصاب الأقدام، وانحناء الأصلاب، وسجود الجباه، وفيها دعاء الرحمن، وتلاوة القرآن، وتسبيح اللسان، والزكاة عبادة مالية فيها تطهير القلوب، وتزكية النفوس، وفيها إنفاق الأموال، ومواساة الفقراء، وفيها تحقيق التكافل، وتجسيد التآلف، والصوم عبادة تَرْكيَّة، في نهارها يُترك الطعام، ويُجتنب الشراب، وتُعتزل الزوجات.
أما الحج فعبادة جامعة إذ فيه:
عبادة البدن بالطواف والسعي، والوقوف والرمي، وعبادة المال بنفقة الحج، وتقديم الهدي بالذبح والثج،كما أنه - في أثناء الإحرام - عبادة تَرْكيَّة فمحظورات الإحرام يدخل فيها مع ترك الجماع، حرمة الخطبة وعقد النكاح، إضافة إلى ترك الطيب وقص الشعر وتقليم الأظافر وغير ذلك من وجوه الترفه والتنعم.
« فالحج عبادة جامعة تتعلق بقلب الحاج من حيث النية والقصد، كما تتعلق بجسده وجوارحه من حيث الأعمال والمناسك،...كما تتعلق بماله من حيث الإنفاق والهدي والصدقات » . [ العبادة : د. محمد أبو الفتح البيانوني – ص:50 ] .
فلكل جارحة عبادة: فمن عبادة القلب التعلق بالله والخشوع، ومن عبادة العين رؤية البيت وسكب الدموع، ، واليد ترفع للطلب من الرحمن ولرمي الشيطان، والأقدام تنتصب وقوفاً بعرفه، وسعياً بين الصفا والمروة، واللسان يصدع بالتلبية والتكبير والأذكار، ويلهج بالدعاء والمناجاة والاستغفار.
الحج عبادة مكانية:
الصلاة تؤدى في أي بيت من بيوت الله { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } ، وأي بقعة طاهرة من الأرض، وحيثما أدركت المسلم الصلاة صلى ولوفي غير المسجد لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) ، والصيام يؤديه المسلم في أي مكان، والزكاة يُخرجها في بلده وفي سائر بلاد المسلمين، لكن فريضة الحج لابد أن تؤدى في البلد الحرام والأماكن المقدسة، حتى إن العلماء عرفوا الحج في الاصطلاح الشرعي بأنه: « قصد مكة للنسك في زمن مخصوص » [ كشاف القناع : 2/375 ] ، فلا حج إلا بالرحيل والقدوم إلى بيت الله .
وهنا معان عظيمة ودلالات دقيقة، إليك بعضها: * الأهمية والخصوصية:
في الصلاة نداء الأذان يدعوك به الله للفلاح والصلاة، وليس للزكاة والصوم نداء، والحج نداء بالقدوم وأذان بالمثول : { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } ، نعم ناداك مولاك لتأتي إليه فالأمر إذن مهم، فالله يريدك أن تؤدي هذه العبادة في مكان مخصوص وهو بيته الحرام لأهمية هذه الفريضة وخصوصيتها، وأنت بهذا النداء لك خصوصية الإجابة والضيافة فأنت من وفد الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وفد الله ثلاثة الحاج والمعتمر والغازي ) [ رواه النسائي وابن ماجه ] ، فما أعظم الأمر، وما أحسن الوفد !
* التهيئة والأعطية:
إذا دعاك الملك أو الرئيس لتحضر إلى قصره فلا شك أنك ستتنظف وتتطيب وتلبس أحسن ملابسك، والداعي لك في الحج ملك الملوك سبحانه وتعالى، وهذا يجعل كل حاج يتهيأ ويستعد، والنظافة المطلوبة هي الإقلاع عن الذنوب، والطهارة المنشودة هي الندم والتوبة، والتطيب المرغوب هو التحلي بالطاعة، وهكذا نجد لذلك آثاره في قلب الحاج وعمله، وما من شك أن الملوك يعطون من وفد إليهم ولب دعوتهم لكن عطاء الله أعظم، وكرمه أجزل، وهل هناك ما هو أعظم من أن ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ، وهل ثمة عطاء يقارب( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ؟
* الترك والوصل:
ما من حاج قدم إلى مكة إلا وقد ترك وراءه بلده وقدم إلى بلد الله، وترك بيته وجاء إلى بيت الله، وقطع الأعمال والمشاغل، وتوجه لأداء المناسك والشعائر، ودَّع أهله، وقصد ربَّه، خلَّف دنياه، واستقبل أخراه، وكل ذلك فيه تذكير للعقل، وتطهير للقلب، وتزكية للنفس، إنها صياغة نفسية، ومعالجة قلبية، وتربية سلوكية، ولله در القائل:
حين ارتديت ملابس الإحـرام *** راجعت ما أسلفت من أيامي
كم مرة بعت القناعة والرضـا *** وجمعت أرصدة من الأوهام
واليوم قد كُشف الغطاء فجئتكم *** الذنب خلفي والرجاء أمامي
يا رب إني قد خلعت ضلالـتي *** لما ارتديت ملابس الإحرام
الحج وحدة وإخاء:
يستشعر المسلمون وحدتهم وصلتهم بإخوانهم المسلمين، فهم يصلون إلى قبلة واحدة، ويصومون في وقت واحد، ويتبعون رسولاً واحداً صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه الفريضة تكون تلك المعاني أقوى وأعمق وأشمل، إذ تكون في أعماق القلوب شوقاً وشعوراً، وتُسمع من الألسنة تلبية وتكبيراً، وتُرى بالأعين إزاراً ورداءً وتجرداً وإحراماً، وتتجلى في الجموع حركة وسكوناً، إقامة وارتحالاً، وقوفاً وإفاضة، فكل شيء موحد، العاطفة واللغة والهيئة والحركة دون أي فارق يميّز، ولا علامة تحدد، فالكل سواء فقراء وأغنياء، ضعفاء وأقوياء، عامة وعلماء، رعية ورعاة، فالأخوة مشاعر لا شعارات، وحقائق لا مزايدات، وحينئذ يتجلى للمسلمين وغيرهم التمثل بقوله تعالى: { إنما المؤمنون إخوة }، ويتجدد النموذج الفريد الذي صاغه محمد صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في المؤاخاة الفريدة { والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدوهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } .
الحج انتماء وولاء:
المسلم منتم لأمته، وولاؤه لها، والعبادات تربطه بها، وتشده إليها، وفي القدوم إلى مكة المكرمة، والمثول في المشاعر المقدسة، تجسيد لتلك المعاني، فهو يرى الكعبة التي يتوجه إليها، ويعيش مع المسلمين الذين ينتمي إليهم في بقعة واحدة ومعايشة حقيقية ملموسة، وكأن في الحج تأكيد وتعميق لهذا الانتماء، بطلب المثول في مواطن الإسلام، في مهبط الوحي، وكأن لسان الحال يقول له: هنا مكة المكرمة، هنا البيت الحرام، هنا حصل { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } ، هنا الوادي غير ذي الزرع الذي جاءه إبراهيم الخليل عليه السلام وترك فيه زوجه وولده وقال { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم }، هنا سعت هاجر بين الصفا والمروة تبحث لرضيعها عن ماء، وهنا تفجّر ماء زمزم بين أقدام الرضيع إسماعيل عليه السلام، هنا أصالة التوحيد، وعراقة التاريخ، ولُحمة الانتماء، { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس } .
هنا في مكة تنّزل الوحي في غار حراء، ومن هنا في البيت الحرام أُسري بخير الأنبياء، وهنا شِعْبُ أبي طالب حيث حوصر وقوطع المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه الأوفياء، ومن هنا هاجر سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وعاد في يوم الفتح ظافراً منتصراً معلناً ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) ، هنا في البيت الحرام حطّم رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم معالم الجاهلية ممثلة في الأصنام، وهنا ارتقى بلال الحبشي الأسود رضي الله عنه سطح الكعبة وأعلن بأذانه انتصار العقيدة الإسلامية، وهزيمة الوثنية ، ورقي المعاني الإيمانية، ودنو الحمية الجاهلية، وسمو الأخوة الإسلامية، وهبوط العصبية والطبقية.
هنا في عرفة وقف الرسول صلى الله عليه وسلم واكتمل الدين وتنّزلت عليه { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، وهنا وقف النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع مقرراً المعالم الإنسانية والحضارية للإسلام، وهنا قام صلى الله عليه وسلم داعياً عند المشعر الحرام، وهنا بمنى نحر بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين ناقة.
كل ذلك يعرفه المسلم ويرتبط به لكنه في الحج يراه، ويعيش في رحابه، ويتنقل بين مواضعه ومشاعره، فيتعمق لديه الشعور بالانتماء والولاء، ومعلوم الأثر الفكري والنفسي للمعاينة والمشاهدة بعد الخبر والمعرفة، « وليس راءٍ كمن سمعا » ، إنه وهو يطوف كأنما يرى ويتذكر بناء البيت في ذلك الزمن البعيد { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين } ، وهو في عرفة كأنما يرى ويتذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب في المسلمين، إن المعاني تستكن في نفسه، والمشاعر تستقر في قلبه، والخواطر تجول في فكره، والدموع تنسكب من عينيه، وهو في كل ذلك وسط جموع هادرة من إخوانه الحجاج المسلمين .. فأي قوة في الانتماء لأمة الإسلام أقوى من هذه ؟ وأي ولاء أصدق للمسلمين من هذا ؟
فكأن الحج صياغة جديدة وقوة فريدة في ربط المسلم بأمته وشعوره بأنه فرد من أمة، وحاضر له تاريخ، وواقع له أمجاد، فمن يحج يخرج بهذه المعاني بأقوى ما يمكن.
الحج والغاية والوسيلة:
أساس الإسلام كلمة التوحيد « لا إله إلا الله،محمد سول الله » ، وهي باختصار ووضوح شديدين تدل على أن الغاية عبودية الله، وأن الوسيلة إتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخلاصة الإسلام ابتغاء وجه الله، واقتفاء نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ،توحيد وإخلاص بلا شرك ولا رياء، وتمسك وإتباع بلا تردد ولا ابتداع .
وهذه وقفات مع كلا الجانبين:
الجانب الأول:
يقول الله جل وعلا : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، والأسلوب بالنفي والاستثناء يدل على الحصر والقصر فغاية الحياة كلها بكل ما فيها عبادة الله، فحقيقة العبودية « التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة، التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر، ومن كل معنى غير التعبد لله » [ الظلال :6/3387 ] .
وفي امتداد العبادة وسعة مدلولها وشمولها نجد قول الله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } تلك هي العبادة في الصلوات والدعوات، والذبائح والأضحيات وسائر الطاعات ، وهي تستمر في سائر الأوقات من المحيا إلى الممات، قال القرطبي : « وقال قوم: النسك في هذه الآية جميع أعمال البر والطاعات، من قولك نسك فلان فهو ناسك إذا تعبّد، { ومحياي } أي ما أعمله في حياتي ، { ومماتي } أي ما أوصي به بعد وفاتي » [ تفسير القرطبي : 1/1264 ] ، « والمراد من كون محياه ومماته لله أنه قد وجه وجهه، وحصر نيته وعزمه في حبس حياته لطاعته ومرضاته وبذلها في سبيله، فيموت على ذلك كما يعيش » [ تفسير المراغي : 8/90 ] ،هكذا ينبغي أن تكون عبادتي كلها لله، وكذا « ما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح » [ تفسير القاسمي : 6/808 ] ، « ويجوز أن يكون مماته لله الشهادة في سبيل الله » [ تفسير ابن عاشور : 8/202 ] ، ولا تخفى أهمية قوله { لا شريك له } فكل ذلك له وحده لا شريك له، وقوله { وبذلك أمرت } بيان مهم فالأمر ليس اختياراً أو بحسب الإمكان، كلا ولكنه أمر من الله، وقوله : { وأنا أول المسلمين } تتمة التوضيح لحقيقة التوحيد ودلالة العبودية ومعنى الإسلام، إنه الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك.
إن معنى الآية يؤكد أن الشعائر لا تُؤدى إلا لله، والأموال لا تُنفق إلا في مرضاة الله، والأوقات لا تُقضى إلا في طاعة الله، والجهود لا تُبذل إلا في ما يحب الله، والطاقات لا تُسخر إلا في مراد الله، والمهج والأرواح لا تُزهق إلا في سبيل الله، ولا شئ في الحياة يُقصد أو يُقدَّم على عبادة الله، ومن هنا جاء التحذير الرباني في قوله تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم و عشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } ، فقد جمعت الآية كل متعلقات الدنيا ومحبوباتها وفي الآية : « الوعيد الشديد والمقت الأكيد على من كان شئ من هذه المذكورات أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله، وعلامة ذلك أنه إذاعُرض أمران، أحدهما يحبه الله ورسوله، وليس للنفس فيه هوى، والآخر تحبه ونفسه وتشتهيه، ولكنه يُفَوت عليه محبوباً لله ورسوله أو يُنقصه، فإنه إن قدّم ما تهواه نفسه على ما يحبه الله دلّ ذلك على أنه ظالم تارك لما يجب عليه » [ تفسير السعدي ص : 332 ] .
وبعد هذا التوضيح الموجز نمضي إلى الحج لنثبت أنه يُحقق معاني التوحيد والعبودية بأشمل وأبلغ صورة،فالحج نموذج لجعل الحياة بكل ما فيها ومن فيها لله،فالحاج شوقه ونيته لله، قصده وعزمه لله، تحركه وسفره لله، ماله ونفقته لله، عمله وراحته لله، نطقه وسكوته لله، وقته وزمانه لله، فكره وتدبيره لله، جهده وعمله لله، لقد ترك بلده، وربما خلَّف أهله، وقطع عمله وأوقف شغله، وسخر ماله وجهده لأداء فريضة الحج، وهاهو يحصر نفسه في بقعة معينة من الأرض كل وقته وفكره وعمله فيها طاعة ونسك لله، لا يشغله عن تلك الغاية شاغل ولا يصرفه عنها صارف، في صورة شاملة تستغرق الوقت كله ليلاً ونهاراً، والجهد كله طوافاً وسعياً ووقوفاً، والمشاعر كلها رغبة ورهبة وحباً وتعلقاً، فكل الحجاج أوكد شغلهم طاعة الله، وأعظم آمالهم مغفرة الله، ولأجل ذلك يسخر كل شيء، ويؤخر كل شيء ويتحقق فعلاً بالعبودية الحقة والتوحيد الخالص، لا يُثنيه عن ذلك حب الزوجة والأبناء، ولا يصرفه عنه الانشغال بالأعمال والأموال، بل كل ذلك يًسخره ويستعين به ويُطوِّعه لطاعة الله.
ولا ننسى تحقق الحاج بحقيقة الإسلام والاستسلام، فهو مسلم أمره لله، يؤدي المناسك كما أمر الله وإن وجد فيها المشقة، وإن خفيت عليه الحكمة، فهو يرمي الجمار سبعاً دون تردد أو تشكك ولا طلب لتعليل للفعل أو للعدد، بل لسان حاله يمثِّل ما جاء في قوله تعالى : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ومايذكّر إلا أولو الألباب } ، وفي ذلك تشبه باستسلام الخليل إبراهيم عليه السلام لأمر ربه في ترك زوجه وولده ورؤيته ذبح ابنه، واستجابته في كل ذلك لأمره، ويتجلى الإخلاص في حال الحاج بكل وضوح من بداية النية كما أهل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فقال: ( اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة )، ومروراً بالتلبية وإعلان نفي الشرك ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ) ، فالحج دورة شعورية عملية لصبغة التوحيد وحلية العبودية، توفرت فيها الأسباب من ترك الديار، وتحمل معاناة الأسفار، واجتمع فيها شرف الزمان، وعظمة وحرمة المكان، بما لا يكون في غير هذه الفريضة بمكانها وزمانها ومناسكها.
الجانب الثاني:
في الحج يتجلى التحقق بالإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومحبته وإتباعه، فقوله جل وعلا : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } هو الشعار الظاهر في أداء المناسك، إذ حقيقة الحج دقة المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال هو صلى الله عليه وسلم : ( خذوا عني مناسككم ) ، ومعلوم أن أكثر تفاصيل المناسك لم يُذكر في القرآن، وإنما أُخذ من سنته عليه الصلاة والسلام، فالأمة تنتقل من منى إلى عرفات، وتفيض من عرفات إلى مزدلفة، وتتوجه منها إلى منى في دقة متناهية وأوقات منضبطة وأيام معلومة، وكل ذلك اتباع لنسكه صلى الله عليه وسلم ، والحجاج يُلبون فإذا رموا جمرة العقبة أوقفوا التلبية ورجعوا من الرمي مُكَبِّرين، وكل ذلك علته الوحيدة الاقتداء بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وكأن لسان حال جموع الحجاج الغفيرة يقول: هذه أمة محمد صلى الله عليه وسلم تسير وفق هديه وتتوجه بأمره.
وصورة أخرى يظهر فيها الانضباط ودقة المتابعة للمصطفى صلى الله عليه وسلم وهي محظورات الإحرام، فالحاج مجتنب لهذه المحظورات ، بل وحريص على ألا يقع في أي شيء منها، وعنده التزام شديد وحرص أكيد عل عدم الإخلال بأيسر شيء منها، وترى هذا الحرص في أسئلة الحجاج فهذا يسأل عن استخدام المنظفات التي فيها روائح عطرية، وآخر يسأل عن الإحرام إذا لامس الرأس في أثناء النوم وهكذا.
وبهذا الإيجاز نرى أن الحج تحقق بأصل الإسلام في الغاية والوسيلة، وذلك بتأثير قلبي وشعور نفسي وتطبيق عملي، وذلك في بقعة واحدة، وفي جموع غفيرة، ومن هنا حُق لهذه الفريضة أن تكون فريضة العمر .