الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد: فقد كان رسول الله أحسن الناس خُلقًا -بأبي هو وأمي-, يعامل الناس جميعًا معاملة طيبة رقيقة,
وكيف لا يكون كذلك وهو الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين, يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم, ومن هذه الحقيقة يمكننا أن ندرك عناية رسول الله بأهم مرحلة يمر بها الإنسان "مرحلة الشباب".
فكان يدرك طبيعة الشباب؛ فيوجههم ويرشدهم بما يتناسب مع قدراتهم, ويشجعهم ويسند إليهم من المهام ما يسمو بهممهم, ويقوي نفوسهم.
والمتأمل في سيرته في تعامله مع الشبيبة ينتبه لأمر مهم, وهو أن رسول الله كان يرفق بالشباب, ويدرك طبيعة تفكيرهم, وفي الوقت نفسه يستخرج مواهبهم ويستفيد من طاقاتهم, ويرشدها فيما ينفعهم, وينفع أمتهم كما أنه يوجههم بصورة مباشرة, كل ذلك في تكامل رائع يكشف عن عظمة شخص النبي, وعظيم قدراته التربوية.
فليست تربية الشباب كما يظنها البعض اليوم بأن على المربي أن يكتفي بالتوجيه غير المباشر دون تدخل أو توجيه ونصح مباشر, بل التوجيه المباشر للمستجيب من الشباب يوفر على الدعاة وقتًا طويلًا, وربما أعمارًا من انتظار التوجيه بالتلميح: فها هو يردف خلفه الفتى ابن عباس رضي الله عنهما,
وفي هذا تربية عملية له على التواضع تجد تطبيقها في حياة ابن عباس رضي الله عنهما, وتواضعه, وإكباره بالعلماء كزيد بن ثابت حيث كان ينتظره على بابه في شدة الحر؛ ليطلب العلم.
وللقرب فائدة نفسيَّة يستغلها النبي في توصيل المعاني العظيمة المباشرة للفتى الذكي؛ فيستوعبها وينقلها لنا, ووالله فإنه أفاد الأمة بدرر تحتاج لمجلدات لشرحها؛ عن حنش الصنعاني عن عبد الله بن عباس أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله يومًا، فقال له رسول الله: "يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ. رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"[1].
فيوجهه هنا بشكل مباشر ويلفت نظره لما سيذكره بقوله: "أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ", ثم يشرع في التوجيه بعد التحفيز.
وبمثل هذا كان موقفه مع معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ فعنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ, وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ" فَقَالَ: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"[2]. فسبحان الله العظيم يبدأ بتليين قلبه, ولفت نظره بقوله: "إِنِّي لأُحِبُّكَ"! وفي هذا تحفيز للعاطفة؛ فما بالك بفتى يخبره رسول الله أنه يحبه -فداه أبي وأمي-, ثم يشرع بعدها في التوجيه الذي تستقبله نفس شغوفة بتعرف ما يهديه إليها حبيبها.
دعونا نذكر مواقف أخرى -غير المذكورة آنفًا- فيها الجمع بين التوجيه ومراعاة الحاجات النفسية للشباب؛ فعن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- قال: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ, فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً, وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ رَحِيمًا رَقِيقًا؛ فَظَنَّ أَنَّا قَدْ اشْتَقْنَا أَهْلَنَا, فَسَأَلَنَا عَنْ مَنْ تَرَكْنَا مِنْ أَهْلِنَا؟ فَأَخْبَرْنَاهُ. فَقَالَ: "ارْجِعُوا إلى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ"[3].
فانظر كيف أقام لهم تلك الدورة التوجيهية والتربوية لمدة عشرين يومًا ومن بعد ذلك يسألهم عن أحوالهم وعن أهليهم؟! وفي هذا مزيد تعرف عليهم, وفيه تقرب وإزالة حواجز, وإدراك من الداعية الحصيف لأهمية إظهار الاهتمام بالشئون الشخصية العامة لكل من يدعوهم؛ ليحل المشاكل, أو ليتعرف على المواهب؛ وليستخرج ما لدى كل واحد منهم من معارف وعلاقات.
ثم بعد ذلك يوصيهم بما يجب عليهم من الدعوة والتعليم, وتطبيق ما تعلموه منه, وهذا توجيه مباشر ومجمل, ثم يوصيهم بأهم وصية يجب الاعتناء بها, وهي: الصلاة, يصلونها كما رأوه يصليها, وبعدها يرشدهم إلى عدم إغفال من هم أكبر منهم حتى لا تأخذ الشباب فورة القوَّة, والفرح بما عندهم فيتنكرون للكبار.
وانظر كيف يتفرس رسول الله في الشاب -بعد مثل تلك الجلسات-, ويطلع على قدراته ومواهبه؛ فيسند له مهامًا كبيرة؛ فيرسل مصعبًا إلى المدينة مبلغًا عنه دين الله تعالى, فما أخطأت فراسته فيه؛ إذ فتح الله قلوب أهل المدينة وسادتها على يديه, وبحسن منطقه وكريم خلقه استطاع أن يكسب القلوب, ويمهد الطريق للدولة المسلمة, وبرأيي أن لمصعب -رضي الله عنه- منة على المسلمين جميعًا -حاشا رسول الله- بهذا العمل!
وقلْ مثل ذلك في تقديره لمواهب زيد بن ثابت رضي الله عنه, وإسناده مهمة في غاية الأهمية بالنسبة لأي حاكم, وهي: أن يترجم له ويفحص ما يكتب عنه فيما بينه وبين اليهود. وكما نعلم أن مثل هذه المهمة خطيرة بسبب ما كان بين المسلمين واليهود من حساسية في ذلك الوقت, وهذا ما حدث به زيد عن نفسه؛ فعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ, قَالَ زَيْدٌ: ذُهِبَ بِي إلى النَّبِيِّ فَأُعْجِبَ بِي. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا غُلامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ وَقَالَ: "يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي". قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ, وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ, وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ[4].
فالشباب بحاجة إلى تقدير وإلى إعادة اكتشاف, وإلى إعطاء فرصة تتناسب مع قدراتهم -وليس مع وسائطهم ولا مجاملة لهم- في زمن صار تجاهل المواهب, وترك تقديرها, واحتكار الفرص ديدن الكبار في أغلب المجالات -إلا من رحم الله!.
تعالَ الآن ننتقل إلى نقطة أخرى في رعاية النبي -عليه الصلاة والسلام- للشباب, وإدراكه لاختلافهم عن غيرهم.
انظر كيف كان يراعي اشتياق الشاب لأهله, ومن ذلك أيضًا: ما ورد في البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سافرت معه في بعض أسفاره, فلما أن أقبلنا, قال النبي: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ إلى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ".
وفي رواية أخرى: نلحظ أن النبي يُراعي الشباب لا سيما في أمر شهوتهم؛ ففي الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَفَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ مِنْ غَزْوَةٍ فَتَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ لِي قَطُوفٍ -أي بطيء- فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَنَخَسَ بَعِيرِي بِعَنَزَةٍ كَانَتْ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ بَعِيرِي كَأَجْوَدِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ الإِبِلِ؛ فَإِذَا النَّبِيُّ --أي هو الراكب الذي نخس البعير وكانت بطيئة فأسرعت وهذا من معجزاته- فَقَالَ: "مَا يُعْجِلُكَ؟" قُلْتُ: كُنْتُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرُسٍ. قَالَ: "أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟" قُلْتُ: ثَيِّبًا. قَالَ: "فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ". قَالَ: فَلَمَّا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ, قَالَ: "أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا -أَيْ عِشَاءً- لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ"[5].
فيُراعي هنا حاجات الجميع: فيسأل أولًا جابرًا عن حاله وسبب استعجاله, ثم يبدي رأيه في زواجه أنه كان يفضل له أن يتزوج بكرًا بدلًا من ثيب؛ فإن البكر تخوض تجربتها الجديدة في الزواج فتعتني بزوجها وتحبه, ويراعي كذلك المرأة في بيتها فيترك لها فرصة التزين لتستقبل زوجها على أكمل حالاتها!
بل إنه كان -عليه الصلاة والسلام- يأذن للشباب؛ ليذهبوا إلى بيوتهم في أثناء غزوة الخندق لا سيما من كان حديث عهد بعرس، فيقول أبو سعيد -رضي الله عنه- محدثًا عن شاب كان معهم في الغزوة, فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله, فاستأذنه يومًا فقال: "خُذْ عَلَيْكَ سِلاحَكَ؛ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ"[6].
ولقد كان رسول الله شفوقًا كريمًا يسمع للشباب ويشعر بمشاكلهم, ويعاملهم معاملة كريمة حتى إن أحد الشباب غلبته شهوته, وتنازع في نفسه الطهارة والإيمان مع رجز الشهوة المحرمة والشيطان؛ فلم يجد له من مهرب إلا أن يأتي رسول الله يستأذنه فيما ظنه مخرجًا شرعيًّا له, فإن أذن له رسول الله في الزنا فقد أزاح عن نفسه همّ المخالفة,
وانتفى عنه الشعور بالإثم. فانظر كيف عالجه النبي بالحوار العقلي العاطفي, وبالدعاء له أيضًا من غير زجر, ولا قهر, ولا سخرية منه:
عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا. فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ. فَقَالَ: "ادْنُهْ". فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا، قَالَ: فَجَلَسَ، قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ؟" قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لابْنَتِكَ؟" قَالَ: لا. وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟" قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟" قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ". قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟" قَالَ: لا. وَاللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاتِهِمْ". قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ, وَقَالَ: "اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ, وَحَصِّنْ فَرْجَهُ". قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إلى شَيْءٍ[7].
فهلا تأسينا به في إدراكنا لاشتياق الشباب, ولغلبة الشهوة عليهم فيسرنا لهم أمور الزواج, واجتهدنا في تهيئة سبل العفة, وأكثرنا من الدعاء لهم كمثل فعله, لعلَّنا نفعل -إن شاء الله.
دعونا نلتقط دراري متنوعة من معاملته للشباب؛ تلك المعاملة التي كانت بمنزلة تربية عملية لهم تساهم في التوجيه من خلال المواقف المختلفة؛ فمن تربيته للشباب أنه كان يحترم أحزانهم, فلا يثرب عليهم ما كان منهم في حزنهم؛ ما داموا لم يقعوا في محرم كتسخُّط القدر، بل ويسعى -عليه الصلاة والسلام- في مواساتهم في الأحزان. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: أُصِيبَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ وَأَبْكِي, وَجَعَلُوا يَنْهَوْنَنِي وَرَسُولُ اللَّهِ لا يَنْهَانِي. قَالَ: وَجَعَلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرٍو تَبْكِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "تَبْكِيهِ أَوْ لا تَبْكِيهِ مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ".
فبمثل هذا القول واساهم عليه الصلاة والسلام؛ ليخفف من حزنهم بينما تركهم قبل ذلك يفرغون مخزون الحزن من نفوسهم.
ومن تربيته للشباب ما كان من معاملته لزوجته الشابة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها, وتخفيفه عنها لما حضرتها الحيضة في الحج؛ فشق ذلك عليها, وتوهمت أنها ستحرم من الثواب, فذكر لها ما يطيب نفسها؛ ففي الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ, وَلا نَرَى إِلا الْحَجَّ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ: "أَنَفِسْتِ" يَعْنِي: الْحَيْضَةَ. قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "إِنَّ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي"[8].
وفي تقديره لحاجة الفتاة حديثة السن إلى الترفيه: فقد نقل عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يسابقها فتسبقه ويسبقها, ويقول لها: "هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ"[9]. وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ, وَأَنَا أَنْظُرُ إلى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَأَنَا جَارِيَةٌ؛ فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ"[10].
وكان يعتني بالشباب ويسعى في معاونتهم وحل مشاكلهم وتزويج فقرائهم, وفي الحديث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ انْطَلَقَ يَخْطُبُ عَلَى فَتَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ, فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الأَسَدِيَّةِ فَخَطَبَهَا, فَقَالَتْ: لَسْتُ بِنَاكِحَتِهِ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "فَانْكِحِيهِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُؤَامِرُ فِي نَفْسِي. فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَحَدَّثَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى رَسُولِهِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} إلى قَوْلِهِ: {ضَلاَلًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. قَالَتْ: قَدْ رَضِيتَهُ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مُنْكِحًا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَتْ: إِذَنْ لاَ أَعْصِي رَسُولَ اللَّهِ, قَدْ أَنْكَحْتُهُ نَفْسِي[11].
ومن هؤلاء جُليبيب -رضي الله عنه- الذي كان فقيرًا دميمًا لا يهتم أحد بشأنه فسعى -عليه الصلاة والسلام- في تزويجه؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "خَطَبَ النَّبِيُّ عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ إلى أَبِيهَا, فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ: "فَنَعَمْ إِذًا". قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إلى امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا, فَقَالَتْ: لاهَا اللهُ إِذًا, مَا وَجَدَ رَسُولُ اللهِ إِلا جُلَيْبِيبًا وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلانٍ وَفُلانٍ؟ قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْتَمِعُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ بِذَلِكَ, فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللهِ أَمْرَهُ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ, فَأَنْكِحُوهُ"[12].
ما أعظم تلك الشابة المؤمنة في ردها على أبويها, وتنبيهها لموطن الخير في هذا! وتم الزواج, ولم يلبث جليبيب أن استشهد فلم يفقده أحد إلا رسول الله؛ ففي الحديث عن أبي برزة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ فَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟" قَالُوا: نَعَمْ, فُلانًا وَفُلانًا, وَفُلانًا. ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟" قَالُوا: نَعَمْ فُلانًا وَفُلانًا, وَفُلانًا. ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟" قَالُوا: لا. قَالَ: "لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا فَاطْلُبُوهُ". فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى فَوَجَدُوهُ إلى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوهُ؛ فَأَتَى النَّبِيُّ فَوَقَفَ عَلَيْهِ, فَقَالَ: "قَتَلَ سَبْعَةً ثُمَّ قَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ". قَالَ: فَوَضَعَهُ عَلَى سَاعِدَيْهِ لَيْسَ لَهُ إِلا سَاعِدَا النَّبِيِّ. قَالَ: فَحُفِرَ لَهُ وَوُضِعَ فِي قَبْرِهِ"[13].
ومن تربية النبي عليه الصلاة والسلام, ومن مظاهر عنايته بالشباب أنه كان يطمئنهم إلى جانب رزق الله تعالى, ويربيهم على محبة الله, وطلب ما عنده؛ فإن الشاب في مقتبل حياته يرى ما يستقبله من مهام مختلفة وكبيرة, فهو يرغب في الزواج ويحتاج إلى مال لحاجات مختلفة, ويحتاج إلى عمل وغير ذلك؛ فربما أصابه همّ من ذلك, فهنا يبرز دور المربي الحكيم الذي يقرب الناس إلى الله تعالى, وينقل إليهم ما خبره من لطف الله تعالى..
فيذكرهم هنا بمن هو أدنى منهم حالًا وأضعف قوة, ذلك الوليد الصغير الذي لا يملك من أمره شيئًا, ومع ذلك يرزقه الله تعالى؛ فيهيئ له أمًّا حنونًا وأبًا عطوفًا, فسبحان من يرزق الطير تغدو خماصًا وتعود بطانًا!
وكان رسول الله يدافع عن اختياره للأكفاء من الشباب, للقيام بما يعرفه من قدراتهم من مهام, فاختياره لهم بُني على أساس كفاءتهم, وقدرتهم على إنجاز ما يطلب منهم حتى لو كانت أعمارهم أقل من غيرهم؛ ففي البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ أُسَامَةَ عَلَى قَوْمٍ، فَطَعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ: "إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ خَلِيقًا لِلإِمَارَةِ, وَإِنْ كَانَ أبوه لمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَه".
وفي معاملته لمن هم تحت يده من الخدم الشباب وغيرهم قدوة.. أيما قدوة! فيعرف حاجتهم للعب ويتجاوز عن بعض تقصيرهم؛ عن أنس بن مالك خادم رسول الله قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا, فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ, فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ. وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ؛ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ، أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟" قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ[14].
وقال أيضًا: "خدمت رسول الله عشر سنين ما دريت شيئًا قط وافقه ولا شيئًا قط خالفه، رضي من الله بما كان، وإن كان بعض أزواجه ليقول: لو فعلت كذا وكذا، يقول: دعوه، فإنه لا يكون إلا ما أراد الله عز وجل. وما رأيت رسول الله انتقم لنفسه من شيء إلا أن انتهكت لله حرمة، فإن انتهكت لله حرمة كان أشد الناس غضبًا لله، وما عُرض عليه أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه سخط لله، فإن كان فيه لله سخط كان أبعد الناس منه"[15].
وعن مهاجر مولى أم سلمة قال: "خدمت رسول الله سنين فلم يقل لشيء صنعت لم صنعته, ولا لشيء تركته لم تركته"[16].
المصادر:
[1] رواه أحمد والترمذي, وصححه الألباني.
[2] رواه أحمد وأبو داود والنسائي, وصححه الألباني.
[3] متفق عليه.
[4] رواه أحمد وأبو داود والترمذي, وصححه الألباني.
[5] متفق عليه.
[6] رواه مسلم.
[7] رواه أحمد, وصححه الألباني.
[8] متفق عليه.
[9] رواه أبو داود, وصححه الألباني.
[10] رواه مسلم.
[11] تفسير الطبري.
[12] رواه أحمد, وصححه الألباني.
[13] رواه مسلم.
[14] رواه مسلم.
[15] رواه الطبراني في المعجم الأوسط, وقال: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن عجلان إلا عمر بن محمد الجحشي, تفرد به عبيد الله بن محمد الجحشي.
[16] رواه الطبراني في المعجم الكبير.